مر الآن أكثر من 8 سنوات على أول موجة من النازحين السوريين إلى تركيا، وقد بلغ عددهم، بمرور السنوات، ما يقارب أربعة ملايين، 3,6 مليون منهم فقط مسجلون في نظام الحماية المؤقتة، ببطاقات تعريف (كيملك) تتبع ولاية محددة لكل سوري، لا يحق له الانتقال منها إلى ولايات أخرى إلا بموجب "إذن سفر" صادر عن إدارة الهجرة، يصعب الحصول عليه. كذلك لا يحق للسوري المتمتع بالحماية المؤقتة أن يعمل إلا بموجب "إذن عمل" يتطلب استصدار "إقامة عمل". من نافل القول إن مئات آلاف السوريين يعملون بدون إذن عمل، ويتنقلون بين الولايات بحثاً عن فرصة عمل سوداء بأجور منخفضة.
الجديد في مسالك الحكومة التركية التي لا تعترف بوجود لاجئين على أراضيها، وفقاً للمعايير الدولية النافذة، أنها انتقلت من سياسة غض النظر عن وجود السوريين غير المسجلين وعن عملهم غير النظامي، إلى تطبيق صارم لبعض "قواعد السلوك" المفروضة على السوريين. لماذا حدث هذا الآن؟
يربط كثير من سوريي تركيا بين فوز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول وبين التشدد الذي يواجهونه، سواء من الحكومة أو من المجتمع المضيف الذي ارتفعت وتيرة الاعتداءات الصادرة من بعضه تجاه السوريين، وأبرزها حادثة حي "إيكيتلي" في إسطنبول التي لاقت صدىً واسعاً. الواقع أنه ربط له ما يبرره، وإن كان مضمون الربط يحتمل المجادلة. فالقرارات الجديدة بشأن ترحيل السوريين غير المسجلين في نظام الحماية المؤقتة، أو مرتكبي المخالفات، إلى الداخل السوري، وترحيل المسجلين منهم إلى الولايات التي أصدرت بطاقات تعريفهم، وفرض رسوم على الاستفادة من نظام التأمين الصحي، قد صدرت من وزارة الداخلية التركية وبإيعاز معلن من الرئيس أردوغان، وليس من رئيس البلدية الجديد إمام أوغلو الذي سحبت منه كثيراً من صلاحيات رئيس البلدية لمصلحة المجلس البلدي الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية. والحملة القائمة ضد "السوريين المخالفين" في إسطنبول تقودها الشرطة التركية تنفيذاً لقرارات إدارة الهجرة، وفيها الكثير من التعسف والكيفية وفقاً لعدد من الشهادات التي أدلى بها بعض من تم ترحيلهم وراء الحدود.
أما حادثة "إيكيتلي" التي وقعت بعد أيام قليلة جداً من إعلان فوز إمام أوغلو، فقد قامت على إشاعة كاذبة بشأن تحرش مزعوم، وقالت السلطات إنها ألقت القبض على المحرضين الذين طواهم النسيان سريعاً. من هم هؤلاء؟ هل صحيح أنهم ينتمون للمعارضة أو أنهم مكلفون من قبلها بإثارة الفتنة الأهلية؟ أليس من المنطقي أن يطبل الإعلام الموالي للحكومة بذلك لو كان هذا صحيحاً؟
حالة التبرم من السوريين تتصاعد في المجتمع التركي، منذ بعض الوقت، وبخاصة بعد تفاقم الصعوبات الاقتصادية في السنة الأخيرة
واقع الحال أن حالة التبرم من السوريين تتصاعد في المجتمع التركي، منذ بعض الوقت، وبخاصة بعد تفاقم الصعوبات الاقتصادية في السنة الأخيرة. وهو ما حول موضوع السوريين إلى ورقة سياسية مهمة في الحملات الانتخابية. وبخلاف الشائع، لم يكن حزب الشعب الجمهوري هو الأكثر تحريضاً ضدهم أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة. فقد احتل المرتبة الأولى "الحزب الخيّر" ويمكن اعتبار حزب العدالة والتنمية في المرتبة الثانية من حيث التصريحات السلبية بشأن السوريين، بالنظر إلى ثقل وزنه في المعادلات السياسية.
كان لافتاً، على سبيل المثال، الاعتدال النسبي في خطاب "إمام أوغلو" بالمقارنة مع تشدد خطاب مرشح السلطة "بن علي يلدرم" تجاه السوريين. وعلى رغم تصريحات عديدة سيئة، بشأن السوريين، لرئيس الحزب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو، فقد أصدر الحزب تقريراً بشأن اللاجئين السوريين، اتسم بالتوازن والموضوعية، طالب فيه بوضع إطار قانوني للجوء يحول دون التلاعب بمصيرهم واستثمارهم في الاستقطابات السياسية الداخلية أو في التجاذبات مع الدول الأوروبية.
الحقيقة أن ما يثير استياء جهات سياسية سورية معينة من حزب الشعب الجمهوري، هو سياسته المعلنة الداعية إلى إعادة العلاقات الطبيعية مع النظام السوري، أكثر مما يتعلق ببعض تصريحات أقطاب الحزب التي تنطوي على تحريض ضد اللاجئين السوريين. فـ"الشعب الجمهوري" يرفض كل سياسة الحكومة التركية تجاه سوريا التي قامت على التدخل النشط في الصراع السوري، ويدعو في كل مناسبة إلى تغيير هذه السياسة.
لكن ما يتجاهله أولئك الذين يحمّلون المعارضة التركية مسؤولية التحريض ضد السوريين، هو أن كل السياسة الحكومية قد تغيرت، خلال السنوات الماضية، فتخلت أنقرة عن هدف إسقاط نظام بشار الكيماوي، ودخلت في مسار ثلاثي أستانة مع حليفي النظام، روسيا وإيران، وانحصر اهتمامها بمحاربة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني وأي احتمال لقيام كيان كردي على الشريط الشمالي المحاذي لحدودها الجنوبية، على أنقاض "سورية الأسد". وبالنسبة لموضوع اللاجئين السوريين، فقد فرضت الحكومة التركية نظام الفيزا على دخول السوريين منذ 3 سنوات، وأغلقت حدودها البرية في وجه المزيد منهم، وأوقفت منح بطاقات "الحماية المؤقتة"، وفرضت قيوداً صارمة على تنقلاتهم بين الولايات التركية، وأخذت تتبنى خطاباً متشدداً باطراد تجاه السوريين المقيمين على أراضيها، في تنافس مع أحزاب المعارضة على موجة الاستياء المتصاعدة في المجتمع المحلي.
ويرتبط تصاعد موجة الاستياء بتدهور الأحوال المعيشية لملايين الأتراك، من العاطلين عن العمل الذين بلغت نسبتهم الرسمية أكثر من 13%، ومن أصحاب الدخل المنخفض إلى ما دون خط الجوع (نحو 8 ملايين) بفعل موجة التضخم التي ابتلعت الزيادات الدورية في الأجور.
وبدلاً من توجيه سخطهم نحو السبب الحقيقي لضائقتهم وشقاء أحوالهم، يوجهونها نحو هدف وهمي هو "الآخر" الثقافي الذي يجهلونه، وتساهم الجهة المسؤولة عن السياسات الاقتصادية في توجيههم نحو هذا الهدف السهل، لتتهرب هي من المسؤولية. هذه الآلية في حرف الأنظار أو انحرافها، ليست جديدة لا في تركيا ولا في غيرها من البلدان. كان هذا "الآخر" سابقاً هم يهود تركيا ومسيحيوها، في الخمسينات، ثم أكراد تركيا في الثمانينات وصاعداً، والآن السوريون.
الإجراءات الأخيرة التي حولت حياة سوريي إسطنبول، بصورة خاصة، إلى جحيم الرعب من الترحيل وفقدان مصدر الرزق، أصدرتها الحكومة "الخيّرة"، لا المعارضة "الشريرة" وفقاً لوجهة نظر كثير من السوريين. الأمر بهذه البساطة وهذا الوضوح.