"محاربة داعش في سوريا ليس مثل لعبة "كول أوف ديوتي" (call of duty)". عام 2015 تداولت وسائل إعلام غربية هذا التحذير الذي أطلقه راندي روبرتس، وهو جندي أميركي سابق، كان يقاتل تنظيم "داعش" في سوريا.
سخر روبرتس حينها من الأشخاص الذين يعتقدون أن الحرب مثل ألعاب الفيديو، "لأنهم يعرفون كيف يضغطون على الزناد في لوحة التحكم، يظنون أنهم يستطيعون القيام بذلك في الواقع".
لكن مراهقاً بريطانياً يطلقون عليه اسم "جيمي"، أثبت للعم روبرتس أنه ليس على صواب تماماً، حين تطوع للقتال في أوكرانيا ضد الغزو الروسي الذي بدأ في شباط 2022. "جيمي" لم يطلق النار مرة واحدة في حياته، هوسه بلعبة "كول أوف ديوتي" كان تدريبه الوحيد.
في هذا التقرير يرصد موقع تلفزيون سوريا أثر ألعاب الفيديو على الجيوش وتدريباتها وخططها العسكرية، واستخداماتها من أجل التجنيد وتشكيل الرأي العام والتضليل وبث الدعاية السياسية، إلى درجة أثرت معها على رؤيتنا للحرب نفسها.
الحرب في العوالم الافتراضية
بخلاف القادة العسكريين قديماً، الذين اضطروا للتعامل مع كميات كبيرة من الأوراق والخرائط والجنود الصغار المنحوتين من خشب لشرح خططهم وتحركات القوات الصديقة والعدوّة، يحظى قادة القرن الـ21 بفرصة استبدال وقت التخطيط المنهك هذا بتقنيات شبيهة بألعاب الفيديو، يمكنها أن تؤدي الغرض نفسه وبشكل أكثر كفاءة.
تقدم شركات مثل "إمبروببل" (Improbable) المتخصصة في بناء العوالم الافتراضية، خدمات من هذا النوع لجيوش عدة حول العالم، تساعد القادة العسكريين في إنشاء محاكاة افتراضية لسيناريوهات الحرب الواقعية، ثم تمكنهم من استكشاف هذه السيناريوهات مع جنودهم بطرق عدة، أبرزها:
- منظور عين الطائر: يسمح باستكشاف أرض المعركة من الأعلى، نراه مستخدماً كثيراً في الألعاب الاستراتيجية مثل "ريد أليرت" (Red Alert) أو "جينرال" (Command & Conquer: Generals).
- منظور الشخص الأول: يسمح باستكشاف أرض المعركة كجندي مقاتل، نراه مستخدماً في ألعاب مثل "كونتر سترايك" (Counter Strike).
يوضح أحد المدراء التنفيذيين في الشركة، جو روبنسون لـ"بي بي سي"، أن "إمبروببل" تمكن صانعي القرار من اختبار الأفكار والخطط والمعدات الجديدة، وتدريب القوات على التعامل مع البيئات المعقدة والمتغيرة باستمرار، وتشكيل فهم أوسع للطريقة التي تؤثر بها مختلف العناصر على سير الأمور في أرض المعركة.
التجنيد عبر ألعاب الفيديو
لا يقتصر استخدام ألعاب الفيديو على التدريب والتخطيط داخل حدود المؤسسة العسكرية فقط، بل يتجاوزها إلى بث دعاية سياسية بين المدنيين، لتشكيل رأي عام مؤيد للجيش بالدرجة الأولى، من ثم تجنيد أشخاص محتملين.
لهذا السبب نرى جيوش دول مثل بريطانيا وأميركا قد استحدثت أقساما خاصة بما يسمى "الرياضة الإلكترونية"، يخدم فيها جنود نظاميون بدوام كامل، مهمتهم الوحيدة هي ممارسة ألعاب الفيديو، ومشاركة مهاراتهم عبر منصات بث كبرى مثل " Twitch"، حيث يمكنهم التواصل مع ملايين اللاعبين.
يدعي الجيش البريطاني أن الهدف من "الرياضة الإلكترونية" هو توعية المدنيين بدور الجيش وليس التجنيد، لكنه مع ذلك نشر ملحقاً عام 2019، يروج صراحة للانضمام إلى الجيش، في مجلة "بلاي ستيشن" (PlayStation ) المتخصصة بألعاب الفيديو، ما أثار موجة من الغضب. لماذا؟ لأن الأطفال والمراهقون هم الجمهور الأساسي لهذا النوع من المجلات.
ولهذا السبب نفسه ثار غضب بعض أعضاء مجلس النواب الأميركي، إذ يقوم جيش بلادهم ببث دعاية تحض على التجنيد عبر منصة " Twitch"، مخاطراً باستهداف أطفال لا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً.
"هذه ليست برامج توعوية وتعليمية مخصصة للجيش"، بهذه الكلمات اعترضت النائبة ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز على نشاطات الجيش في منصات الألعاب.
في الحقيقة لدى هذه الجيوش مهمة تعليمية بالفعل، إذ خلصت العديد من الدراسات إلى وجود أدلة تثبت دور ألعاب الفيديو في صناعة جنود أفضل، وهذا ما يفسر إنفاق الجيش الأميركي مثلاً لأكثر من 4 مليارات دولار سنوياً على مدار العقدين السابقين لدمج ألعاب الفيديو بالكليات العسكرية، ومع تحول هذه الألعاب إلى ثقافة عالمية، يمارسها نحو 2.95 مليار إنسان بانتظام حول العالم، بات بإمكان بعض الجيوش التعامل مع منازل المدنيين كمنصات تعليم وتدريب متقدمة، حيث يمكنهم إعداد وتأهيل جنود محتملين منذ الصغر، بحسب نيف غوردون، أستاذ القانون الدولي في جامعة كوين ماري بلندن.
حرب الأخبار الكاذبة
صحيح أن الواقعية المفرطة لبعض ألعاب الفيديو تمنح اللاعبين تجربة اندماج تام في اللعبة، لكنها ولهذا السبب بالتحديد تهدد قدرتنا على التمييز بين الواقع والصورة الإلكترونية، وهذه ظروف مثالية لنشر الأخبار الكاذبة وتضليل الرأي العام، وروسيا إحدى أكثر الدول احترافاً في استخدام ألعاب الفيديو لهذا الغرض.
خلال حربها المستمرة في سوريا، استخدمت روسيا عدة مرات لقطات فيديو أو صورا من ألعاب الكومبيوتر، اشتهر منها على وجه التحديد حادثتان:
- عام 2017، نشرت وزارة الدفاع الروسية صوراً "تثبت" دعم الولايات المتحدة الأميركية لتنظيم "داعش" في الشرق الأوسط، من ضمنها صورة للحدود السورية العراقية، والحقيقة أن هذه اللقطة مأخوذة من لعبة فيديو اسمها (AC-130 Gunship Simulator: Special Ops Squadron).
- وفي عام 2018، بثت القناة الروسية الأولى تقريراً يفترض أنه وثائقي، خلال تكريمها للطيار الروسي رومان فيليبوف الذي قتل في إدلب، تظهر فيه طيارته من طراز "سوخوي 25"، والحقيقة أن اللقطات مأخوذة من لعبة "آرما 3" (Arma-3).
عادت مقاطع ألعاب الفيديو لتظهر خلال الغزو الروسي لأوكرانيا اليوم، وهذه المرة تورطت وزارة الدفاع الأوكرانية نفسها ببث لقطات تدعي إسقاطها لطائرة روسية، ومن بعدها تناقلت وسائل إعلام غربية مقاطع تظهر قصفا روسيا لمدينة أوكرانية وتصدي قوات الدفاع لغارة جوية، واللقطات الثلاث جميعها من ألعاب فيديو.
السعودية تلتفت إلى "الرياضة الإلكترونية"
حل جيش المملكة العربية السعودية في المرتبة 20 ضمن قائمة أفضل جيوش العالم، في تصنيف "غلوبال فاير باور" لعام 2022، ورغم الفارق الكبير الذي يفصل بينها وبين دول ذات قدرات تقنية متقدمة تمكنها من استخدام ألعاب الفيديو لأغراض سياسية وعسكرية، مثل أميركا وروسيا وبريطانيا، إلا أن السعودية تبدي اهتماماً لافتاً في هذا القطاع.
بدأ الاستثمار السعودي في صناعة ألعاب الفيديو عام 2020، وفي العام 2021 بات لدى المملكة مجموعة "سافي" التي تسعى إلى الريادة في مجال تطوير الألعاب والرياضة الإلكترونية، استحوذ هذا الصندوق على منصات مسابقات واستثمر في شركات ألعاب عالمية، من ضمنها تلك المطورة للعبة "كول أوف ديوتي".
تسعى السعودية الآن كي تكون مركز ترفيه رقمي، وتبني استديوهات لإنتاج الألعاب وتطويرها وتوزيعها، وسط توقعات بوصول قيمة الاسثتمار السعودي في هذا القطاع إلى 6.8 مليار دولار عام 2030.
قد يكون الاستثمار السعودي في قطاع الألعاب جزءا من سعي المملكة للتقليل من اعتماد اقتصادها على النفط، كما يرى بعض الخبراء، لكن آخرين يعتبرونها أداة سياسية لغسيل سمعة المملكة وتوسيع نفوذها، عبر إنتاج أهم وأشهر ألعاب الفيديو عالمياً.
لكن، لماذا قد يهمنا في سياق التقرير هذا، التساؤل عمّا قد يعنيه مستقبلاً هيمنة دولة مثل السعودية على جزء من هذا القطاع؟ الجواب قد نجده في تجربة سابقة لشركة "جوجل" مع الجيش الأميركي.
عام 2018 قدمت "جوجل" للجيش الأميركي دعماً تقنياً يعتمد على الذكاء الصناعي لتحليل الصور، ما أثار غضب موظفيها وآخرين مناصرين للحريات وحقوق الإنسان، بسبب مخاوف تتعلق بتمكين الآلات من اتخاذ قرارات بالقتل والتعرف إلى وجوه البشر، إثر ذلك توقفت الشركة عن التعاون مع الجيش الأميركي. بعدها بعام واحد، جرى تداول أخبار تتحدث عن افتتاح "جوجل" مركزاً للذكاء الصناعي في الصين، سرت شكوك حول تعاونه مع جيش التحرير الشعبي. ما الذي حدث؟ هربت الشركة التجارية باتجاه دول أقل تشدداً في قوانينها لتنفيذ استثماراتها التكنولوجية.
بالمثل، تضغط اليوم جماعات القانون والحريات في أوروبا وأميركا على جيوش بلادها، وتعيق من قدرتهم على استخدام ألعاب الفيديو ومنصاتها من أجل توجيه دعايات عسكرية تستهدف الأطفال مثلاً. فهل تمنح منصات السعودية لهذه الجيوش الملجأ الذي وفرته الصين لشركات مثل "جوجل"؟ لا أحد يستطيع أن يجزم بالجواب، لكن بعض المقدمات المنطقية تساعد في التبنؤ بنتائج منطقية، ومحتملة.
خبراء ألعاب الفيديو.. قادة الحرب الجدد
وراء أغراض الترفيه والتسلية، ترتبط صناعة ألعاب الفيديو بعلاقة معقدة مع المؤسسات العسكرية، تجمع بعض الشركات التي تطور ألعاباً عسكرية أمولاً لصالح مؤسسات خيرية عسكرية، بالمقابل تمول بعض الجيوش العديد من مشاريع تطوير ألعاب الفيديو.
اعتمد أقوى جيش في العالم على لعبة إلكترونية بدأ بإصدارها عام 2002 واستمرت 20 عاماً، تحمل اسم "الجيش الأميركي" (America’s Army)، لتحسين صورته وزيادة التجنيد في صفوفه، ويخطط اليوم للوصول إلى الجيل "Z" عن طريق ألعاب الفيديو.
العديد من الأسلحة المستخدمة في الألعاب شبيهة إلى حد كبير بتلك الحقيقية، يتدرب أطفال ومراهقون على استخدامها اليوم ببراءة في بيوتهم، بينما ترسم قيادات بلادهم مسارات مختلفة لمستقبلهم. استخدم الجيش الأميركي بالفعل خبير ألعاب فيديو لقيادة الطائرات من دون طيار "درون"، فوق الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، وقصف أهدافا هناك وكأنه يلعب.
هكذا إذن، تحولت الحرب حرفياً إلى مجرد لعبة فيديو، في الطرف المتقدم تقنياً من العالم، يبدد أطفال ومراهقون أوقاتهم في التصويب والإطلاق على شاشات إلكترونية أمام أنظار عائلاتهم، وفي الطرف الآخر من العالم، تنفجر الذخائر الحقيقية.