في زمن ما كانت صورة ملتقطة من بعيد مع السيد الرئيس تفتح لك في سوريا أبواب النعيم، فما بالك بصورة كبيرة بجواره أو مصافحة حميمية في مناسبة دينية لاستسقاء المطر أو أحد الأعياد أو حتى في افتتاح مهرجان السينما، وفي هذا الزمن الذي لا يبعد -عن تشردنا في العالم السفلي والعلوي- سوى عشر سنوات كان على كثيرين أن يحتفظوا بصورهم مع الشخصيات المدعومة من أسفل الدرج حتى قمته فلكل مقام مقال أليست صورة مع رئيس البلدية تجعل منك بطلاً لمخالفات البناء وسرقة الكهرباء دون وجل.
وهكذا كان أسفل الدرج السوري مثل أعلاه على مدى خمسين عاماً من حكم البعث، ولذلك تستنجد إعلامية موالية حتى العظم وهي تهاجم الفساد المستشري في البلاد بصورتها مع السيد الرئيس، ولا تخشى حتى من رئيس الحكومة وبعض المرتزقة الذين يحملون السلاح.. فيما يهمس بصوت خفيض زميل لها بضرورة حماية المستهلك وتخفيض الأسعار ومنع الاحتكار، فالرجل ليس في تاريخه الطويل صورة واحدة مع شخصية مهمة في هذا الدرج المرتفع المتسخ بالمسؤولين العتاة.
أليس السيد هو حامي البلاد والعباد، ومن أجل بقائه زهقت أرواح الأحبة في لحظة عناق وجداني بين الصورة والفكرة
غياث نديم ملحم من قرية الجوبة في الساحل السوري كما عرف عن نفسه يستنجد بالسيد الرئيس من سطوة عائلة تشبيحية تتاجر بالمخدرات والسلاح، وتهدده وعائلته بالقتل حتى إنه لا يستطيع العودة إلى بيته، وخلف غياث صورة لأخيه (الشهيد) تم وضع صورة الرئيس معها عنوة، ومع ذلك يمضي حديثه مبللاً بالدموع والخوف والرجاء أليس السيد هو حامي البلاد والعباد، ومن أجل بقائه زهقت أرواح الأحبة في لحظة عناق وجداني بين الصورة والفكرة.
في مقابل هؤلاء هناك من يخفي صورته مع الفاسدين القدامى ويسميها عملاً اضطرارياً أملته المرحلة الصاخبة بالخوف وقلة فرص العمل وضيق أفق العمل الإعلامي في سنوات المنع وقانون الإعلام المكتوب في مخفر شرطة، ومنذ أن أصبح في الضفة الأخرى بفضل الثورة وفرصها الجديدة التي تم منحها للقافزين من حضن البعث إلى حضن أعدائه صار لزاماً عليه أن يشتمه ليل نهار حتى باتت الشتيمة مثل إعلان براءة، وبعضهم يبدأ بها قبل السلام عليك.
بعض الانتهازيين الذين اختاروا الدفاع عن صورهم وتكرارها على مواقع التواصل على أنها سنوات عمل مزدحمة بالرأي والرأي الآخر يمكن أن تطلق عليهم صفة الانتهازي الرزين، فهو قد قرر الدفاع عن الصورة حتى بعد احتراقها، ويرى ذلك انسجاماً مع أفكاره وقناعاته الوطنية فالوطن غالٍ وعزيز ويساوي في عليائه صور الطغاة القادة، واستبدالها بالخريطة السورية أو حتى العلم كمن يتنزع وجه أبيه قبل موته.
حتى أولئك الذين ما زالوا يعتقدون بقدرتها على رد المظالم واستدعاء الظلم يعيشون في أعماقهم نهاية تلك الأسطورة التي ولدوا يسبحون بحمدها
وسطيون اختفوا من المشهد كي لا يتذكر أحد ما أنهم أمسكوا عصا المواقف من أوسطها فهم هنا وهناك، وهم في أول الثورة وآخرها، وهم أول الوطنية حينما يستعر الكلام، ولذلك اختار معظمهم المنافي البعيدة كي تحين لحظة تاريخية انتظروها طويلاً ليقولوا: كنا معكم لكننا أيضاً كنا مع الوطن، وهذا ما يعني بالضبط أنهم مع من سيأتي إلى حكم البلاد مهما كان موقعه في الصورة أو دونها.
سقطت الصورة في معناها وسطوتها، وحتى أولئك الذين ما زالوا يعتقدون بقدرتها على رد المظالم واستدعاء الظلم يعيشون في أعماقهم نهاية تلك الأسطورة التي ولدوا يسبحون بحمدها، ولذلك تكاثرت في الآونة الأخيرة رسائل الاستجداء بها لكن لا جدوى.. وهذا ما تشي به دموع غياث نديم الملحم وارتجاف أوصاله رعباً من عصابات الشبيحة والمخدرات التي خرجت من فصائل كانت تحمل صورة "السيد الرئيس" ذات يوم وتقتل باسمها وتغتصب باسمها، ولكنها اليوم تعود إلى سيرتها الأولى حيث لا صورة تعلو فوق صورة الموت الذي يبطش اليوم بدعاته.