سعياً للبحث عن حياة أفضل، انطلق أربعة رجال من آل الشيخي برفقة صبي قريب لهم في الرابعة عشرة من عمره، في رحلة بحرية متجهة نحو أوروبا، متجاهلين تحذيرات أحد أقاربهم المسنين، وهكذا صعدت تلك الثلة على متن قارب صيد من ليبيا باتجاه إيطاليا، حيث كانوا يتمنون أن يبدؤوا رحلة العبور براً في أوروبا إلى أن يصلوا إلى ألمانيا.
ولكن، بدلاً من أن يرسو القارب في إيطاليا، انقلب وغرق يوم الأربعاء الماضي على عمق آلاف الأمتار من ماء البحر، وعلى بعد 75 كلم من اليونان، أي بالقرب من أعمق نقطة في البحر المتوسط. ويعتقد أن قارب الصيد هذا كان يحمل نحو 750 راكباً، بقي المئات منهم مفقودين حتى ساعة متأخرة من ليل يوم الخميس، لتصبح تلك واحدة من أسوأ حوادث تحطم وغرق السفن في البحر المتوسط في التاريخ الحديث في حال تأكيد المسؤولين لأسوأ مخاوف الأهالي، وهذا هو المتوقع غالباً.
صعد خمسة أفراد من عائلة واحدة على متن ذلك القارب، بينهم علي الشيخي، 29 عاماً، وهو أب لثلاثة أولاد، ترك زوجته في البلد، برفقة الصغار، وأكبرهم عمره ستة أعوام، وأوسطهم خمسة، أما الصغير فعمره سنتان، وذلك على أمل أن يلم شملهم في أوروبا يوماً ما، وأن يوفر لأولاده تعليماً أفضل بعد تردي التعليم في بلده.
علي الشيخي في مطار غير معروف في شهر أيار 2023
يخبرنا والد علي، عبدو الشيخي، 38 عاماً، عن سبب سفر ابنه بهذه الطريقة، فيقول: "كان يريد أن ينقذ أولاده"، فقد وصل عبدو الشيخي إلى ألمانيا قبل سبع سنوات، في حين غادر خمسة من أقاربه كوباني التي تقع على الحدود مع تركيا في مطلع شهر آذار الماضي.
وعين العرب/كوباني التي تحولت في وقت من الأوقات إلى "رمز للانتصار" على مقاتلي تنظيم الدولة في عام 2015، طالتها اليوم الانقسامات المريرة التي تعيشها أغلب المناطق في سوريا، بعد مرور أكثر من عقد على الحرب. وفي ظل غياب التنمية والاستثمارات وأي بادرة للسلام، صار أغلب من يعيشون في شمال شرقي سوريا يسيرون على هدي من سبقوهم من المهاجرين إلى أوروبا، ولكنهم بذلك يخاطرون بالكثير من الأمور، بعدما شددت تركيا حالة ضبطها لحدودها، فصار العبور إليها براً أصعب.
كما تعود أصول أغلب السوريين الذين ما يزالون في عداد المفقودين بعد تحطم هذا القارب إلى مدينة درعا الواقعة في الجنوب على الحدود مع الأردن.
مسار الرحلة المريرة
عبر أقارب عبدو الشيخي الخمسة مناطق النظام في سوريا ليصلوا إلى لبنان، ومن هناك سافروا جواً إلى القاهرة، ثم إلى طرابلس بليبيا، ومن طرابلس سافروا براً إلى طبرق. وإلى جانب التكاليف التي تجشموها حتى يصلوا إلى ليبيا، ينبغي على كل منهم أن يدفع مبلغاً قدره ستة آلاف دولار للمهربين عند الوصول إلى إيطاليا.
وحول ذلك يخبرنا خالهم، محمد عبدي مروان، عبر الهاتف من "عين العرب / كوباني" فيقول: "كان من المفترض أن يصلوا في غضون ثلاثة أو أربعة أيام، لكن الأمر تحول إلى صدمة، إذ كنا نتمنى أن يصلوا إلى هناك سالمين".
ألقي القبض على تسعة ناجين يوم الخميس بسبب الاشتباه بكونهم أعضاء في العصابة التي رتبت لهذه الرحلة، بحسب ما أعلنه خفر السواحل اليوناني، أما قناة ERT التابعة للدولة في اليونان فقد أعلنت بأن المشتبه بهم جميعهم من التابعية المصرية.
ويعلق عبدو الشيخي على ذلك بقوله: "لا توجد مقومات للحياة في سوريا، ولكنهم عندما قرروا الرحيل أخبرتُهم بأن طريق ليبيا خطر جداً وطويل، فقالوا لي بإن غيرهم عبروه، ولهذا سنقطع هذا الطريق نحن أيضاً".
ظروف سيئة بانتظار رحلة أسوأ
يحدثنا شاهين، وهو قريب آخر لآل الشيخي مقيم في ألمانيا، بأن آخر شيء سمعه من قريبه هو الشكوى من الظروف خلال فترة انتظاره في ليبيا التي امتدت لأشهر، وذلك لأن المهربين لم يسمحوا لهم بمغادرة الغرف التي حبسوهم فيها حتى لا يكتشف وجودهم أحد، كما أنهم يصادرون هواتف المهاجرين في أغلب الأحيان، ولا يجلبون لهم الطعام الذين يطلبونه.
ويضيف شاهين الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن اسمه حتى لا يخاطر بوضع إقامته في ألمانيا، فيقول: "كانوا سبعة في غرفة واحدة.. ولم يكن أي منهم يرى الشمس، ولهذا انتابهم حزن شديد وتملكهم اليأس، ولكنهم لم يفكروا بالعودة إلى سوريا".
في حين يخبرنا الشيخي العجوز بأن رجال آل الشيخي أرسلوا رسائل نصية لأقاربهم في ساعة متأخرة من ليلة الخميس الماضي ليخبروهم بأنهم سيغادرون في غضون ساعات على متن مركب من المفترض أن يحمل 300 شخص، فانتظرت العائلة صورة تؤكد وصولهم إلى إيطاليا، لكن تلك الصورة لم تصل.
ويعلق عبدو الشيخي على ذلك بقوله: "لقد أرسل المهربون الشباب إلى حتفهم".
الأمل ضعيف!
بعد مرور ساعات على بدء عمليات الإنقاذ، اعتقد أحد أفراد آل الشيخي بأنه تعرف على علي ضمن صورة للناجين نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كان الرجل مستلقياً على الأرض ضمن رتل يضم أشخاصاً متدثرين ببطانيات داخل مخيم مؤقت أقيم لهؤلاء الركاب، وكانت يده المرفوعة تغطي معظم وجهه، باستثناء لحيته المميزة، ثم ظهرت صورة أخرى لشاب غير متدثر وهو جالس ويحمل بيده ورقة.
أما بقية الأقارب فلم يُعثر لهم على أثر، ولم يتم التوصل لأي طريقة للوصول إلى الرجل الجالس على الأرضية بغية التأكد من أنه علي فعلاً.
يعمل الشيخي العجوز في مجال الكهرباء بألمانيا، ويخبرنا بأنه اتصل بالمشفى في اليونان في محاولة للحصول على أية معلومات، ولكن لم يحالفه الحظ في ذلك، كما لم يتمكن من الحصول على أي معلومة من المخيم المؤقت، وما يزال يدرس فكرة السفر إلى اليونان للبحث عن أقاربه، وذلك لأن الرحلة إلى هناك كلفه 600 يورو على الأقل، كما أنه لا يجيد التحدث بالإنكليزية، ولهذا يقول: "سأنتظر حتى الغد، فإن لم يصلني أي خبر، فسأسافر، ولكن المشكلة هي في سفري إلى هناك من دون أن أصل لأي نتيجة".
المصدر: Associated Press