صورة العمل الخيري ومسؤولية منظمات السوريين

لقد أصبحت منظمات المجتمع المدني التي تعمل في المسار الإنساني والخيري تشكل فارقاً حضارياً وسمة عصرية لأبناء مجتمعاتها، لما وصلت إليه من إنجازات ملموسة ومستوى متميز في الإدارة والشفافية وتحقيق الأهداف، والقيام بأنشطة مختلفة تقدم أكبر منفعة ممكنة للمجتمع، وهناك من يطلق عليها تسمية القطاع الثالث وهو القطاع الذي يضمن التوازن بين تغول الأنظمة الحكومية وتسلطها وبين طمع قطاع الأعمال (القطاع الخاص) وسعيه الحثيث لتحقيق الربح المالي أولاً وأخيراً.

وتطور نشاط العمل الخيري عالمياً فغدا علماً يتم تدريسه وتعليمه في جامعات متقدمة عالمياً، وفيه كثير من المهارات والفنون التي يحتاجها العامل في هذا القطاع ليصل للنجاح المطلوب، بينما نجد أن هناك صورة نمطية في مجتمعاتنا عن العمل الخيري، فهو لا يتعدى جهدا يبذله كبار السن أو ممن لديهم وقت الفراغ مدفوعين بقيمهم الإنسانية والدينية ويتجسد بتسلّم مبلغ من المال أو كميات من طعام ولباس وتسليمها لمستحقيها، بالمقابل نرى في المجتمعات المتقدمة أن قطاع الأعمال الخيرية قطاع مؤسساتي متكامل ينمو بسرعة كبيرة وهو شريك للقطاع الحكومي في أنشطة التنمية، ويعلن أهدافه في محاولة الحد من الفقر المدقع والتشرد ومحاولة الحد من التفاوت الطبقي من خلال تقوية العلاقة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، والقضاء على ظاهرة التسول من خلال مساعدات ممنهجة، ومحاولة منع فرض ضرائب عبئها ثقيل على الفقراء.

واجهت منظمات هذا المسار من العمل المدني كثير من التحديات والفرص، وهو ما واجه المنظمات السورية التي انطلقت من نقطة الخبرة الصفرية

وتبرز أهمية هذا القطاع ودوره في زمن الصراعات والنزاعات والحروب، حيث يكون الاحتياج كبيرا وضاغطا، وتلبية هذا الاحتياج تتطلب جهوداً مخططةً ودقيقةً وفورية وإغاثية للمحتاجين، وهنا تواجه منظمات هذا المسار من العمل المدني كثيرا من التحديات والفرص، وهو ما واجه المنظمات السورية التي انطلقت من نقطة الخبرة الصفرية، وذلك يعود لأسباب عديدة ربما أبرزها غياب مفهوم العمل المدني والمجتمعي في ظل حكم مستبد امتد لأكثر من نصف قرن، حيث كان يستنفر جهازه الأمني من أجل إفطار جماعي في شهر رمضان، وبالتالي تم قتل بذرة وفكرة العمل الخيري والإنساني في إطار تنظيم المجتمع المدني، ولكن هذا لا يبرر ما وقعت به بعض المنظمات من ممارسات وأخطاء من نوع آخر، بعضها مؤسسي ومرتبط  بنظام العمل والإدارة، كابتعادها عن معايير النجاح المشتركة للعمل الإنساني والخيري بالعموم والمتمثل بوضوح أهداف العمل، والإعلان عن البيانات المالية وتدقيقها، والبعد عن التسييس، وتنمية روح العمل الخيري لدى أبناء المجتمع، والحرص على إنفاق التبرعات في مكانها، وعدم اعتبار عمل الخير مظهراً اجتماعياً مكملاً فقط على حساب دوره في إيصال المنفعة للمحتاجين الفعليين، وضعف القدرات والمهارات الإدارية لدى العاملين في هذا المجال.

وكذلك هناك بعض الممارسات لها علاقة بالقائمين على هذا العمل ومدى التزامهم بأخلاقيات العمل التي تتمثل بتبني الشفافية والصدق والاستقلالية والأمانة والنزاهة وحفظ كرامة الآخرين ولا سيما المستفيدين من خدمات العمل الإنساني من محتاجين ويتامى وأرامل ومصابي حرب وأيتام، وتجنب الشللية والعائلية والمناطقية والمحسوبية والابتعاد عن الصراعات التي تضر بأهداف العمل، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن حداثة عهد المجتمع السوري بهذا النمط من العمل جعل العاملين فيه أكثر عرضة للوقوع بأخطاء قد يكون مرجعها نقص الخبرة وضعف الاتصال بالمنظمات الدولية العاملة في مسار العمل الإنساني والخيري، ولكن ما يصدر في الإعلام من تقديرات للمبالغ التي تم إنفاقها والمشاريع التي تم تنفيذها يبدو مبالغاً به والناس يتفقدون أثر ذلك على أرض الواقع فعلى سبيل المثال لا الحصر ووفق بيان أدلت به مصادر قَطرية بأن مقدار الدعم الخيري والإنساني المقدم للسوريين وصل إلى نحو 2 مليار دولار، مساهمة جمعية قطر الخيرية وحدها 898،2 مليون دولار استفاد منها 22،8 مليون نازح وذلك حسب إحصاءات الجمعية، هذا ما عدا صندوق قطر للتنمية والهلال الأحمر القطري، وكذلك تعد دولة الكويت رائدة في مجال العمل الإنساني والخيري، بالإضافة للتبرعات الفردية والتمويل الجماعي، والمنظمات الدولية المانحة لنمط محدد من الاحتياجات كالتعافي المبكر والإصحاح والدعم النفسي والصحة والغذاء.

خطط الاستجابة الإنسانية تحتاج إلى احترافية في الحصول على المعلومات الموثوقة والشفافة بما يتصل باحتياجات فعلية للمستفيدين، وتشخيص هذه الاحتياجات

كل ما تقدم جعل تلك المنظمات العاملة في هذا المسار تواجه اتهامات وشكاوى، وتشكيك بالنوايا وبالأرقام وربما تكون غير محقة بشكل كلي أو مجتزأ، ولكنها تترك أثراً واضحاً على صورة عمل هذه المنظمات لدى الجمهور العام من المستفيدين وغيرهم من أصحاب المصلحة. اليوم وبعد مضي عقد من الزمن على التجربة العملية لهذه المنظمات فقد آن الأوان لها أن تتلافى الأخطاء وأن ترتقي في ممارستها إلى مستوى مسؤولية العمل الإنساني والخيري، وتطور كوادرها بالتدريب والتمكين واكتساب المهارات وتسد النقص في الكوادر المؤهلة بالتسويق، وتعمل على تطوير قناعات إدارتها وتمكينها من تفهم دورها في تصدير الصورة الحقيقية والواضحة لمنجزاتها وإسهاماتها لأصحاب المصلحة من مستفيدين ومانحين ومتبرعين وجمهور عام، حيث إن خطط الاستجابة الإنسانية تحتاج إلى احترافية في الحصول على المعلومات الموثوقة والشفافة بما يتصل باحتياجات فعلية للمستفيدين، وتشخيص هذه الاحتياجات ثم تحديد التكاليف بشكل دقيق ووفق أنظمة الإدارة الحديثة لضمان عدم وجود فجوات أو ثغرات ينفذ منها الفساد المالي والإداري، وضمان عدم وجود أساليب غير اقتصادية في التصرف بموارد المنظمة.

وربما من حق السوريين أن لا يواجهوا الخذلان في مسار العمل الإنساني والخيري، بعد أن واجهوا ذلك في مسارات المعارضة السياسية ومؤسساتها، وكذلك في مسارات التحرر والعمل الثوري.