"صوته المفاتيحُ، والرواةُ يجفّفون جباههم"
(إلى عبد الباسط الساروت)
لوَّحَ طويلاً،
واختفى خلفَ الجبل..
الأولادُ كسروا عواميدَ خيمتِه،
ولكن بابها ظلَّ مُشرعاً..
كنا ندخلُ فنجدُ القهوةَ ساخنةً،
وابتسامتَه في المدخلِ معلقةً كالمفتاح...
خطواتُه ظلتْ كالأجراسِ،
نسمعها ونبددُ خوفنا بأغنيةٍ يحفظها الجميع:
-لن يعود، حتى لو هدموا بغداد
ولن يعود، حتى ولو صارتِ الشامُ غيمة..
مرةً، أخطأَ واحدٌ منا بالأغنية،
فسالتِ الشامُ على الشجرِ كالبكاء،
وسمعنا خطواته أوضحَ من دقاتِ القلوب..
حاولنا أن نتداركَ الأمر!،
رفعنا أصواتنا أكثر:
-لن يعود، حتى ولو هدموا بغداد، حتى ولو...-
وعندما انهمكَ أكثرُنا بالصراخ
لمعَ طيفُه.. من خلفِ الجبل...!
***
صوته المفاتيحُ التي تُقفلُ الحكاياتِ،
المفاتيحُ التي تجمعها سرّاً خيلُ اللصوص،
المفاتيحُ التي عاشتْ عمرها مفاتيحاً
ولم تتعلمْ حرفةً أخرى...
وصوته حين انتبهتُ
كان يحدثني
عن قطارٍ شفيفٍ سوفَ يعبرُ حافياً
وعن امرأةٍ
تقرؤني من بعيدِ وتبكي..
***
وكانَ حينَ يسيرُ
الحكاياتُ تتساقطُ من جيوبه،
الابطالُ يركضونَ خلفه
ويحاولون أن يتشبثوا بياقتِه،
الشخصياتُ الثانوية تطيرُ وراءه مع الريحِ،
والرواةُ يُجفِّفون جباههم بالمناديل...
وكان حين يسيرُ
يلمُّ الرقصَ والرصاصَ بشمسهِ،
وظلُّه خيمةٌ...
وحين اختفى بعد الجبال
عدنا إلى بيوتنا
لم نجدِ الأبوابَ، ولم نجدِ النوافذ
فحملنا، وما زلنا نحمل السماء على ظهورنا
***
قلتُ: أُعلِّقُ صورتَه على الجدار..
فصار يرتجفُ كلما هزَّ رقّاصُ الساعةِ..
تركتُها على الشرفة كي لا يختنقَ الأسود والأبيضُ
فرفعتِ الريحُ ياقته أعلى من الشرفة..
تركتها تمشي حيثُ تشاء
فسال شيبُهُ بيننا
وفجأةً
أزعجهُ أن يكونَ احتمالاً أبيضَ،
عضَّ على وصيته
وركضَ مثل الذئب..
***
وكان بوسعهِ أن يتركَ كل شيءٍ على حاله..
وكان بوسع الغبار الذي ثار خلفه
أن يُلصقَ الصحاري في حدقاتنا للأبد
لكن يديهِ اللتين سال منهما المطر
والحزنَ الذي غرسه في حدائقنا
والقطاراتِ التي هرّتْ من قلبه.. عندما استدار
كانوا كفيلين بأن نقطع أوتارنا..
***
صوتهُ المفاتيحُ،
ولم يزل عالقاً في الحكايةِ،
ويصيح: أخرجوني!