يستعد نتنياهو للعودة إلى المنصب، الذي طالما خبره وتولاه أكثر من جميع أسلافه ومنافسيه، والرجوع إلى قصر البلفور، مقر إقامة رئيس الحكومة في القدس الغربية.
يتوقع خلال أسبوعين أن يبدأ نتنياهو في تشكيل الحكومة الإسرائيلية الـ 37، وهي الولاية السادسة لصاحب أطول فترة حكم في إسرائيل.
مع ذلك، هناك احتمال ضئيل جداً ومستبعد، في حال حدوث خلافات بينية داخل قوائم اليمين الفائزة على الحقائب الوزارية، أن تحرم نتنياهو من مهمة تكليف تشكيل الحكومة والذهاب إلى جولة سادسة من الانتخابات.
أظهرت النتائج النهائية، اليوم الجمعة، فوزاً واضحاً لنتنياهو بحصوله على 64 مقعداً من أصل 120 مقعدا في الكنيست بقيادة كتلة من أحزاب اليمين وأقصى اليمين الديني المتطرف.
وخلافاً للتوقعات السابقة لانتخابات الكنيست الـ 25، الثلاثاء الماضي، استطاع زعيم الليكود تجاوز الأغلبية المطلوبة (61 مقعداً).
ستكون المنطقة أمام حكومة أكثر يمينية وتطرفاً في تاريخ إسرائيل تضم أعتى رموز الفاشية الدينية والصهيونية، وسط مناخ دولي معقد إثر الحرب في أوكرانيا فضلاً عن علاقة نتنياهو المتوترة بديمقراطيي البيت الأبيض.
في حين تشير التوقعات إلى أنه مع عودة نتنياهو "القوية" إلى المشهد ستزداد الضربات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية داخل سوريا، واتباع نهج أكثر شدة حيال إيران.
كما ستنعكس طبيعة الموقف الذي ستتخذه الحكومة اليمينية في تل أبيب من غزو بوتين لأوكرانيا، وعلاقة نتنياهو الجديدة بصديقه القديم بوتين، على حجم النشاط الإسرائيلي في سوريا وسط تراجع للدور الروسي فيها أخيراً.
يحاول موقع "تلفزيون سوريا" قراءة المشهد العام للانتخابات الإسرائيلية ودلالات عودة نتنياهو الكاسحة إلى الحكم مصطحباً معه أحزاباً فاشية، بشكل غير مسبوق، وانعكاس هذا الفوز على الملفات الدولية والإقليمية وحجم تأثيره على الساحة السورية في ظل أجواء دولية شهدت تغييرات كثيراً خلال السنة الأخيرة.
عودة نتنياهو "المحنك"
يعود تاريخ مشاركة اليمين الإسرائيلي في المشهد السياسي إلى فترة السبعينيات، وكانت مشاركة هامشية في ظل تسيّد أحزاب اليسار والوسط الصهيوني، في حين أن الانطلاقة الفعلية بدأت 1996 عندما حقق نتنياهو فوزاً صادماً على شمعون بيريز اليساري المعروف.
يرجع خبراء في الشأن الإسرائيلي، وقتئذ، فوز نتنياهو اليميني ابن الثقافة اليهودية الأميركية، على قلاع اليسار المؤسس لإسرائيل إلى حنكته في الدعاية السياسية وتوظيف خبرات أميركية لقيادة حملاته الانتخابية.
ترأس نتنياهو رئاسة الوزراء في إسرائيل لأول مرة 1996 – 1999، وعاد 2009 لتولي أربع فترات متواصلة حتى عام 2021، واليوم لديه أربع سنوات يقود فيها منصبه بتشكيل أكثر حكومات إسرائيل يمينية وتطرفاً.
وبحسب بن كسبيت، أشهر الصحفيين الإسرائيليين، كان نتنياهو يركز في حملته ضد بيريز على كلمتين مفتاحيتين هما الأمن والقدس، في حين فشل بيريز الذي خدعته ثقته بنفسه ومكانته الفكرية وقدرته على الارتجال في فتح أي حديث أو خطاب ثقافي أو فكري إذا أمسك "المايك"، ونسي أن يخاطب عقل الجمهور واحتياجاته.
استعان نتنياهو بمستشار الحملات الانتخابية الأميركية، آرثر فينكلشتاين، الذي يوصف بأنه "رجل الظل" لنتنياهو ويقف وراء صعوده قبل ثلاثة عقود عبر إطلاق حملة مضادة مفادها أن "بيريز سيقسم القدس".
يصف بن كسبيت نتنياهو بأنه "مدرسة في التسويق السياسي"، وأصدر الكاتب الإسرائيلي باروخ لاشيم كتاباً في 2017، يحمل هذا العنوان حول سيرة حياة نتنياهو من منظور نقدي وتحليلي.
وبالفعل نجح نتنياهو على الدوام في الوصول إلى هدفه، كان السر في توظيف خبراته الدعائية التي اكتسبها خلال إقامته في الولايات المتحدة، ولم يكن خروجه من المنصب العام الماضي نتيجة تعنته وتأسيسه لـ"حكم الفرد" إلا لأن هدف "الإطاحة بحكوماته المتعاقبة" كان شعار المرحلة حيث اجتمع ضده المناهضون له في تحالفات هجينة لم تدم طويلاً.
وعندما جلس زعيماً للمعارضة نجح نتنياهو أيضاً في الحفاظ على وحدة المعارضة إلى أن تمكن من إسقاط خصومه في حكومة "التغيير" بقيادة بينيت ولابيد.
صعود اليمين الفاشي.. والأكثر تطرفاً في إسرائيل
لم تكن عودة بنيامين نتنياهو (73 عاماً) هذه المرة كما سابقاتها، التي كانت تضم تنوعاً نسبياً عقد خلالها تحالفات مع أحزاب اليمين والوسط لتشكيل حكوماته، ولكن يعود اليوم بحكومة يمينية خالصة.
لأول مرة في تاريخ إسرائيل تحقق أحزاب اليمين المتحالفة الأغلبية وتشكل تحالفاً متماسكاً وصلباً ومتجانساً.
تضم كتلة اليمين بقيادة حزب "الليكود" أحزاباً دينية متشددة، ممثلة بأحزاب الحريديم (الأرثوذكسية اليهودية)، وهي "شاس" و "يهودت هاتوراه".
يشار إلى أن حزب "ساش" الحريدي المتطرف يحقق لأول مرة 11 مقعداً، وهذا رقم قياسي لم يحققه منذ 23 عاماً.
أكبر المفاجآت كان صعود حزب "الصهيونية الدينية"، حزب ديني قومي فاشي استيطاني متطرف، بزعامة رأسين هما بتسلئيل سموتيرش وإيتمار بن غافير، وأصبح ثالث أكبر حزب في إسرائيل بـ 14 مقعداً.
استفاد اليمين في جولة الانتخابات الأخيرة في حشد أنصاره وقاعدته الانتخابية، إضافة إلى استمالة الناخب الإسرائيلي الذي سئم دوامة الانتخابات وغياب الاستقرار السياسي الذي لم توفره حكومة "التغيير" الهجينة.
كما يعتبر نمو الخطاب الشعبوي وصعود اليمين جزءاً من ظاهرة عالمية ازدادت انتشاراً في السنوات الأخيرة.
وحذرت صحيفة "هآرتس"، المحسوبة على اليسار، بعد ظهور عينات نتائج الانتخابات من أن إسرائيل على وشك أن تبدأ ثورة يمينية ودينية وسلطوية تهدد الدولة و"ديمقراطيتها".
ووصفت الصحيفة، صعود اليمين بأنه "يوم أسود في تاريخ إسرائيل".
في حين خرج حزب "ميرتس"، أبرز أحزاب اليسار الصهيوني، خاسراً في الانتخابات ولم يستطع تجاوز نسبة الحسم المطلوبة وتقدر بـ 3.25%، وذلك لأول مرة منذ 30 عاماً.
كما احتل حزب العمل (يسار الوسط) ذيل القائمة في الأحزاب الفائزة وبالكاد تخطى نسبة الحسم بـ 4 مقاعد، بعدما كان أكثر الأحزاب الإسرائيلية تسلماً للسلطة.
من هو إيتمار بن غافير؟
يطمح إيتمار بن غافير لتسلم حقيبة وزارة الداخلية في حكومة نتنياهو المرتقبة وفقاً لوعود تلقاها من الأخير خلال الحملة الانتخابية.
يعد بن غافير شخصية مثيرة للجدل في الأوساط الإسرائيلية، لشدة تطرفه وأعماله الاستفزازية في إسرائيل وضد الفلسطينيين.
إيتمار بن غافير (46 عاماً)، ولد في القدس الغربية من أب وأم من يهود العراق، معروف بمواقفه المتطرفة تجاه الفلسطينيين وهو من سكان مستوطنة "كريات أربع" المقامة على أراضي الخليل جنوبي الضفة الغربية، بحسب تعريفه على موقع الرسمي للكنيست.
وينتمي بن غافير إلى أكثر التيارات يمينية وتطرفاً في إسرائيل، ويصف نفسه بأنه كان تلميذاً للحاخام المتطرف وعضو الكنيست السابق مائير كهانا مؤسس حزب "كاخ" المصنف إرهابياً في إسرائيل والولايات المتحدة، بحسب "تايمز أوف إسرائيل".
ولا يترك بن غافير فرصة لاقتحام الحرم القدسي وقيادة حملات الكراهية ضد الفلسطينيين وظهر في مواقف عديدة يشهر السلاح بوجههم.
ولا يقتصر استفزازاته على الفلسطينيين وإنما على اليمين المتشدد أيضاً لأنه يحاول شرعنة اقتحام الحرم القدسي ويطالب بسن قانون يجيز لليهود الصلاة في الأقصى، الأمر الذي ترفضه المؤسسة الحاخامية لاعتبارات الشريعة.
القضية الفلسطينية
مع صعود اليمين الفاشي يتحول المستوطنون إلى قوة سياسية بارزة ونافذة ستدير بيدها الحكم هذه المرة، ما ينعكس على اتباع نهج أكثر تشدداً حيال الفلسطينيين.
انقطعت المياه عن عملية السلام المتراخية في 2014 وكرر حكام تل أبيب موقفهم بتهميش القضية الفلسطينية مقابل توسعهم في سياسة الاستيطان والتهويد واستمرار الاحتلال في الضفة وحصار القطاع.
حتى التصريح الأخير للابيد بدعم خيار "حل الدولتين" في الأمم المتحدة لم يكن إلا من باب الدعاية الانتخابية السياسية لنيل رضى الغرب.
وفي عام 2018، دشن نتنياهو متفاخراً مرحلة جديدة شعارها "السلام من أجل السلام" بدلاً عن "السلام مقابل الأرض" والتي أفضت إلى توقيع اتفاقيات التطبيع مع دول خليجية والمغرب والسودان المسماة اتفاقيات السلام الإبراهيمي.
ووعد نتنياهو أنصاره في اليمين بالاعتراف بالبؤر الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية بالضفة، والتي يطلق عليها اسم "المستوطنات الفتية" والتي تعد غير قانونية وفقاً للقانون الإسرائيلي نفسه.
الملفات الدولية.. أبرزها العلاقة مع بايدن
من اللافت في العلاقة بين نتنياهو والإدارة الأميركية الحالية، أن نتنياهو خرج من حيث دخل بايدن مطلع العام الماضي، واليوم يعود نتنياهو من حيث تهتز مكانة بايدن عجوز البيت الأبيض الذي وعد بحل كثير من القضايا عبر تفعيل الطرق "الدبلوماسية".
ولكن لم تنجح دبلوماسية بايدن في الملف النووي الإيراني، وشهد عهده غرق العالم في حرب تنذر بالتحول إلى حرب كونية مع تصاعد حدة التهديدات باستخدام النووي.
لا تجمع الرجلين علاقة ودية خلافاً للعلاقة الاستراتيجية لبلديهما، وهذا الأمر ليس لصالح إسرائيل التي لم تشهد في تاريخها أي خلاف أو فتور مع واشنطن التي تتعهد علانية الالتزام بالتفوق النوعي لإسرائيل في المنطقة.
الديمقراطيون الذين أداروا ظهرهم لنتنياهو في السابق وساعدوا في نجاح حكومة التغيير، كيف سيتعاملون مع حكومة يمينية صرفة وأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل؟
يشكل الملف النووي الإيراني نقطة خلاف أساسية بين بايدن ونتنياهو، والأخير هو من دفع الإدارة السابقة (ترامب) للانسحاب من الاتفاق النووي في 2018، في حين جاء بايدن محملاً بوعود انتخابية لحل دبلوماسي لملف النووي، ولكنه فشل.
خلال أكثر من 16 شهراً انخرطت واشنطن في مفاوضات غير مباشرة مع طهران لكبح الملف النووي، في الوقت الذي كان نتنياهو يتزعم المعارضة الإسرائيلية ويحذر الناخب الإسرائيلي من أن حكومة التغيير بقيادة بينيت ولابيد ستضيع البلاد ويتهمها بأنها "هزيلة" لا تستطيع إيقاف إيران.
يشار إلى أن المفاوضات توقفت بشكل مفاجئ بعد وصولها إلى مراحل متقدمة وتوقيع وشيك لاتفاق جديد، في أيلول/سبتمبر الماضي، في ظل تزايد تعقيد المعادلات الدولية نتيجة الحرب الأوكرانية وتداعياتها العالمية فضلاً عن اشتعال الساحات الإيرانية بالمظاهرات المناهضة للنظام الإيراني.
الحرب الأوكرانية
في فترة غياب نتنياهو عن منصبه الذي اعتاده، كان الذين أطاحوا به يتخبطون في اتخاذ موقف واضح من الحرب شرقي أوروبا.
ومن أبرز الملفات وأعقدها التي سيواجهها نتنياهو هي هل سيؤيد صديقه القديم بوتين في غزو أوكرانيا؟ وهل سيكمل مسار الحكومة السابقة التي اتخذت أخيراً موقفاً أكثر تقدماً بالوقوف إلى جانب واشنطن والغرب في التصدي لأطماع بوتين.
خلقت الحرب الأوكرانية حالة من الفرز والاستقطاب العالمي وغيرت كثيراً من المعادلات الدولية، كما برزت كثير من الدول الموالية للغرب مثل تركيا والهند والسعودية، يمكن تسميتها بـ "الخط الثالث" اتخذت مواقف أقل تبعية للغرب بالملف الأوكراني.
وإسرائيل كانت في بداية الغزو الروسي من دول "الخط الثالث" لأنها لم تنخرط مع الغرب في فرض عقوبات على موسكو كما أنها إلى الآن لم ترسل أسلحة قتالية إلى الأوكرانيين رغم طلبات زيلينسكي المتكررة.
وفي الوقت الذي تميل فيه التيارات اليمينية في كثير من أرجاء العالم إلى دعم موقف بوتين، سيتطلب من نتنياهو اتخاذ موقف أكثر وضوحاً تجاه بوتين، ولا سيما أن يائير لابيد المنتهية ولايته شهدت حكومته العديد من المطبات مع موسكو، كان أبرزها الأزمة التي أثارتها تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن "يهودية النازيين" وإغلاق مكاتب "الوكالة اليهودية" في الأراضي الروسية.
ويمثل الملف الأوكراني أبرز الملفات الشائكة أمام نتنياهو لإعادة ترتيب العلاقة مع صديقه بوتين ولا سيما في ظل العلاقة المتوترة مع الإدارة الأميركية الحالية.
وكان نتنياهو هو أول من بادر إلى التنسيق مع بوتين في الساحة السورية ودشنا "خط تنسيق ساخن" مع بداية التدخل الروسي في سوريا 2015، وتطورت العلاقة إلى "صداقة حميمة" في 2018 عندما كان نتنياهو الضيف الأبرز والأكثر حضوراً في موسكو.
توقعات باتباع نهج أكثر تشدداً ضد إيران في سوريا
كما أن إسرائيل تنظر إلى روسيا على أنها جارتها الشمالية نظراً للنفوذ الروسي في سوريا، والذي تراجع أخيراً بسبب أوكرانيا، ومحاولة إيران سد الفراغ، الأمر الذي تخشاه تل أبيب ولا تحبذه موسكو.
ومع عودة "العدو القوي" لإيران إلى الحكم، وفقاً لما يصور نتنياهو نفسه، من المتوقع أن تشهد الضربات الإسرائيلية المستمرة في سوريا زخماً أكبر.
أما بالنسبة لترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وعلى الرغم من الضمانات التي قدمها الجانب الأميركي للطرفين، فإن هناك تخوفات من أن يعرقل نتنياهو "الصفقة البحرية" بعدما قطع وعوداً لناخبيه بأنه "لن يسمح للابيد بالتنازل عن ممتلكات إسرائيل".
ترسيم الحدود البحرية مع لبنان
وكانت إسرائيل ولبنان سارعتا إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية قبل أربعة أيام فقط من الانتخابات الإسرائيلية.
ورغم تهديداته فمن المشكوك به أن ينقلب نتنياهو على الاتفاق بعد الضمانات الأميركية.
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن كبير المفاوضين اللبناني إلياس بو صعب قوله، إذا أراد نتنياهو الانسحاب من الاتفاقية، فإنه ينسحب بذلك من اتفاق مع الولايات المتحدة، لأن الاتفاق وقع بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وبين لبنان والولايات المتحدة من جهة أخرى.
كما تشكل العلاقات مع تركيا التي تحسنت في الآونة الأخيرة بعد قطيعة كبيرة خلال سنوات حكم نتنياهو المديدة سابقاً، إحدى النقاط التي ربما تتأثر بعودة نتنياهو.
في حين ترى دول الخليج المطبعة مع إسرائيل أن عودة نتنياهو إلى السلطة قد تكون عامل توازن إقليمي في مواجهة إيران، بحسب تقرير لوكالة "رويترز".