icon
التغطية الحية

صرخة لاريسا بندر ضد الجهل والتجاهل الألمانيين

2024.04.29 | 05:40 دمشق

آخر تحديث: 29.04.2024 | 06:56 دمشق

856545
لاريسا بندر
+A
حجم الخط
-A

"لم يسبق لي أن اعتبرت عملي كمترجمة للأدب العربي دون معنى كما هو الحال في هذه الأيام أو الشهور".

بهذه الكلمات الحزينة والمحزنة افتتحت المترجمة الألمانية الشهيرة لاريسا بندر منشورًا فيسبوكيًّا يوم الثلاثاء 23.04.2024. وفي المنشور المذكور عبرت لاريسا عن إحباطها الشديد من أن جهودها في الترجمة وبناء الجسور بين الثقافتين العربية والألمانية لم تأت بنتيجةٍ، أو لم تأتِ بالنتيجة المرجوة. وأشارت، من ناحيةٍ  أولى، إلى تراجع الاهتمام بأدب من سمّتهم "جيراننا المباشرين"، لدرجة امتناع وسائل الإعلام الألمانية الكبرى أو الأساسية عن تناول ترجمات لاريسا وغيرها من المترجمات والمترجمين من العربية إلى الألمانية. ولا يقع اللوم على وسائل الإعلام الألمانية وحدها. فهذا التجاهل وتلك اللامبالاة موجودان حتى عند دور النشر التي تنشر النصوص العربية المترجمة إلى الألمانية. فقد سبق لجونتر أورت، المترجم الألماني المشهور أيضًا، أن عبر عن استيائه الشديد من دار النشر التي نشرت ترجمته لكتاب ياسين الحاج صالح "الفظيع وتمثيله: مداولات في شكل سوريا المخرَّب وتشكلها العسير". ففي منشورٍ فيسبوكيٍّ، رأى أن تلك الدار تحاول إخفاء الكتاب المذكور قدر الإمكان، مع الامتناع عن الإعلان عنه أو تنظيم حفل إطلاقٍ أو قراءةٍ له، وبالتالي ليس هناك أي مراجعاتٍ أو حركةٍ في خصوصه. لاريسا، نفسها، أشارت في تعليقها على منشور جونتر، إلى وجود تجاهلٍ عامٍّ، في ألمانيا، للأدب العربي عمومًا هذه الأيام. وضربت مثالا على ذلك الرواية الأخيرة التي ترجمتها (رواية "لا ماء يرويها" لنجاة عبد الصمد)، إذ لم تتم مراجعتها ومناقشتها حتى الآن إلا من قبل عدد قليل من المدونات التي تهتم بالكتب. ورأت في ذلك تطورًا خطيرًا؛ لأنه يعبر عن التوجه أو الرغبة لا في تجاهل الأدب العربي فحسب، بل في تجاهل كل ما يتعلق بالثقافة العربية أيضًا، بحيث يتم تفضيل إهمال وجهات نظر الآخرين المختلفة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بما يحصل في غزة.

وُصفت لاريسا سابقًا بأنها "ناشطة سورية"، لشدة دفاعها عن "الثورة السورية". كما أنها أصدرت كتابين عن سوريا. وهي تبدي اهتمامًا كبيرًا بكل قضايا المنطقة، العربية والكردية

"صرخة لاريسا بندر" لا تتعلق بمجرد تراجع الاهتمام بالأدب العربي أو تجاهله في ألمانيا عمومًا، بل تتعلق، أيضًا وخصوصًا، بالجهل التام بالوضع في العالم العربي الذي يظهر في المنشورات والتعليقات الفيسبوكية الألمانية خلال الأشهر الستة الماضية، والتي صدرت عن أشخاصٍ لم يسبق لهم أن تعاملوا مع ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط يلقون جملاً من مستوى صحيفة بيلد. فتلك المنشورات والتعليقات تنضح بلاإنسانية فظيعة وتعبِّر عن توحش مريع في المشاعر. وهذا يثير الخوف والفزع بالتأكيد.

وتربط لاريسا بين المسألتين، بين هذا الجهل المعرفي المقترن باللاإنسانية الأخلاقية من جهةٍ، وذلك التجاهل العام والممنهج واللامبالاة المؤسساتية المنتظمة، من جهةٍ أخرى، لتخلص إلى أن كل ذلك يمثل دليلًا على أن النصوص المترجمة لم تُقرأ أو لم تُفهم، أو لم  تترك أي أثرٍ، أو لم يكن لها أي جدوى. وتطرح، في نهاية منشورها، سؤالًا يبدو أقرب إلى أن يكون خطابيًّا/ بلاغيًّا من كونه استفهاميًّا فعلًا: لمَ مواصلة الترجمة، في مثل هذه الأوضاع، لا سيما أن المردود الاقتصادي من الترجمة من اللغة العربية ضئيلٌ لدرجة أنه لا يسمح بأن يكون مورد رزقٍ للعيش منه؟

ردود الفعل الواسعة على منشور لاريسا، والتي كان من بينها لمترجمات ومترجمين بين اللغتين الألمانية والعربية، تضمنت عمومًا تفهمًا لشعورها بالإحباط، واتفاقًا معها في خصوص توصيفها للواقع وتقييمه عمومًا، وتأييدًا لها في التنديد به وبأسبابه، لكن كان هنا توجهٌ عامٌّ بوجوب عدم الوقوع في هاوية اليأس والاستسلام للواقع الراهن. وكان هناك تشديد على الآثار الإيجابية للترجمات التي قدمتها لاريسا الحائزة عن جدارة واستحقاقٍ على وسام الاستحقاق من الرئيس الألماني شتاينماير عام 2018، والتي كُرِّمت بوصفها مترجمة مع 29 شخصية ثقافية ألمانية أخرى.

وُصفت لاريسا سابقًا بأنها "ناشطة سورية"، لشدة دفاعها عن "الثورة السورية". كما أنها أصدرت كتابين عن سوريا. وهي تبدي اهتمامًا كبيرًا بكل قضايا المنطقة، العربية والكردية. والحديث عن "سوريتها" لا يتنافى مع كونها ألمانية، بالتأكيد. وينبغي عدم اختزال هويتها في انتماءٍ واحد. فهي ألمانية وسورية/ عربية، وغير ذلك، وأكثر منه، في الوقت نفسه. وهي صرحت، مرارًا، في أكثر من سياقٍ ومناسبةٍ، أن لديها انتماءين شرقي وغربي، وأنها تحاول أن تكون جسرًا بين العالمين الألماني والعربي، وأنها ترى في التعدد الثقافي وتعدّد الانتماءات غنىً لأصحابه، أفرادًا كانوا أم جماعاتٍ. كما عملت جاهدةً على إظهار ضرورة التخلص من الأحكام المسبقة التي يطلقها الألمان والعرب، كل منهما تجاه الآخر، والإسهام في ذلك التخلص.

منشور لاريسا الأخير يدل على شعورها بأنها فشلت في أن تكون ذلك الجسر المنشود، لكن ينبغي النظر إلى الفشل والإخفاق نظرةً سياقيةً ونسبيةٍ. فالإخفاق، حتى في حال التسليم بحصوله، ليس إخفاق لاريسا، التي بذلت، فعليًّا وحرفيًّا، كل ما بوسعها في هذا الخصوص، ونجحت في تقديمه. فهي لم تكتفِ بترجمة عشرات النصوص من العربية إلى الألمانية، وبكتابة الكتب والمقالات والحضور في الندوات والمحاضرات، بل قامت أيضًا، مع مجموعةٍ من الأشخاص، العرب والألمان، بتأسيس جمعية "الحوار بين الشرق والغرب" التي نظمت كثيرا من اللقاءات مع شخصياتٍ ثقافيةٍ وفنيةٍ وسياسيةٍ في العالم العربي. كما كانت جزءًا فاعلًا من "ثقافة الترحيب" التي سادت في ألمانيا في ذروة موجة قدوم اللاجئين (السوريين) عام 2014-2016. فالإخفاق بنيويٌ ومرتبطٌ بالنظام السياسي الألماني والتاريخ الألماني والمجتمع الألماني عمومًا. وقد حصل ذلك الإخفاق رغم الجهود القيمة والكبيرة التي تقوم بها لاريسا وغيرها من الأشخاص، وليس بسبب وجود خللٍ ما في هذه الجهود. والقول إن الإخفاق نسبيٌّ يعني أنه إذا لم تفضِ تلك الجهود إلى النتيجة المرجوة فهذا لا ينفي أنها حققت كثيرا من النتائج الإيجابية. ولتوضيح هذا التناقض بين الذات الفاعلة والبنية الحاكمة، يمكن الإشارة إلى مفارقة تتمثل في أن لاريسا التي تدافع عن العدالة والتعددية واحترام الاختلافات والتنوع، تدرِّس في جامعة كولن التي قامت منذ فترةٍ قصيرةٍ ﺑ "عملٍ شائنٍ"، من منظور الحريات الأكاديمية والسياسية عمومًا، حين ألغت التعاقد مع الفيلسوفة نانسي فريزر بسبب موقفها المؤيد للقضية الفلسطينية والمندد بالاحتلال الإسرائيلي!

لاريسا بندر ترى في ترجمتها رسالة، وفي تدريسها رسالة، وفي نشاطها في المجال العام رسالة، وتحرص على إعطاء تلك الرسائل حقها وتمكينها من التحقق والوصول إلى الوجهات والنهايات المناسبة. ولا تترك فرصةً مناسبةً إلا وتستثمرها للتعبير عن آرائها وتجسيد قيمها في ممارسةٍ لا تكل ولا تمل، حتى حين يبدو أنها تعلن اليأس والاستسلام. فعلى سبيل المثال، استثمرت لاريسا مشاركتها في الدورة الخامسة والسبعين من معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، في ندوة موسومة ﺑ "القوة، اللغة، السياسة: البلاد العربية، الصين، إيران، أميركا اللاتينية"، لانتقاد إدارة المعرض والتشديد على ضرورة قراءة الأدب الفلسطيني ومعرفة وجهة النظر التي يقدمها وفهمها، بدلًا من الاقتصار على التبني المجحف لوجهة نظر طرفٍ واحدٍ فقط. كما أعلنت، في تلك الندوة، أنها لا تستطيع ولا ترغب في ترجمة كتابات (سورية) غير ناقدةٍ أو معارضةٍ للديكتاتورية (الأسدية)، أو يبدو أنها معبرةٌ عن خطاب النظام الديكتاتوري أو متقاطعة معه، وأنها تفهم نفسها على أنها مترجمة سياسية؛ أي إن ترجمتها لها دوافع وأبعاد، وربما نتائج، سياسية وأخلاقية.

يمكن المجادلة في مدى كون لاريسا ألمانية أو سورية أو عربية أو كردية، لكن ما ينبغي الإقرار أو الاعتراف به، أنها، في كل هذه الانتماءات، أو في غيرها، تتصرف انطلاقًا من رؤيةٍ إنسانيةٍ كونيةٍ، تنشد العدالة للجميع، بغض النظر عن نسبهم وانتسابهم أو انتمائهم. وهي بهذا المعنى، إنسانةٌ، بالمعنى الأخلاقي للكلمة، أكثر من كونها ألمانية أو سورية، أو قبل ذلك وبعده. وهذا الانتماء الإنساني هو الأقوى والأوضح من كل الانتماءات الفرعية، أو هو مؤسسٌ لها، ومتداخل معها، في الوقت نفسه.

كلمات مفتاحية