لم يبد السوريون في تركيا اهتماماً حقيقياً لهشاشة مستقبلهم في البلاد التي لجؤوا إليها بأرواحهم حتى انطلقت حملات وزارة الداخلية التركية لمكافحة "الهجرة غير الشرعية" في مدينة إسطنبول عام 2019، والتي نتج عنها ترحيل عشرات الآلاف منهم للشمال السوري، إما بسبب عدم حيازتهم لوثيقة الحماية المؤقتة، أو لإقامتهم في مدينة إسطنبول رغم قيدهم في مدينة أخرى، أو نتيجة إجراءات تعسفية لقوى الأمن التركية.
وجاءت الحملات كردة فعل غير مخطط لها على خسارة حزب العدالة والتنمية لبلديات مدن إسطنبول وأنقرة الأكبر في البلاد، بعد أن سادت قناعة وسط النخبة الحاكمة بأن ارتفاع أعداد السوريين خاصة والمهاجرين عامةً كان السبب الرئيسي لنقمة مواطني المدينتين على الحكومة.
حتى حينها، انشغل السوريون -الذي قدم معظمهم لتركيا بأرواحهم ودون نية مسبقة- بأهوال ما يحدث في وطنهم، أو بتأمين لقمة عيش وسط ظروف اللجوء الصعبة، متعلقين بأمل العودة الآمنة والكريمة، دون بذل جهد حقيقي على مستوى النخب والمؤسسات لفهم موازنات وتعقيدات بلد الإقامة الجديد. وذلك خلال سنوات تنامى فيها الجدال الداخلي حول الوجود السوري بشكل طردي، حتى بات قضية الرأي العام الأول في البلاد.
على الطرف الآخر، ورغم سياسة الباب المفتوح في السنوات الأولى، لم تختلف مقاربة الحكومة التركية تجاه الوجود السوري عن ”الحالة المؤقتة“ التي تبناها السوريون أنفسهم، ما نتج عنه غياب سياسات الاندماج أو الانسجام المجتمعي والاقتصادي، وتنظيم التوزع السكاني، ومختلف البرامج التي تساهم بتخفيف عبء وجود 4 ملايين لاجئ وتتيح الفرصة للاستفادة منهم.
بعد غياب رؤية حكومية واضحة تجاه الوجود السوري في تركيا خلال ما يزيد عن عشر سنوات، أو على الأقل ارتباطها بشكل مباشر برؤية تبنتها في سوريا ولم تحقق النتيجة المطلوبة، بات التعامل مع القضية من منطلق استراتيجي ووفق رؤية واضحة مسألة أمن قومي. فاستمرار التعامل مع وجود السوريين على أنه حالة مؤقتة قد يؤدي لتشكل مجتمعات موازية غير منسجمة مع المجتمع المضيف، فضلاً عن ضرورة إسكات أصوات تحرض على كراهية السوريين وتتجاوزهم لتهدد السلم الأهلي التركي.
ومع بُعد أفق الحل السياسي الجذري الذي سيتيح إمكانية عودة جماعية للسوريين في تركيا، والتبعات المصيرية على ديمغرافيا وحدود الشرق الأوسط الوطنية في حال قبول وجود 4 ملايين سوري في تركيا بشكل دائم، ستتبنى الحكومة التركية غالباً سياسات هجينة تجمع بين ترسيخ وجود قسم من السوريين في البلاد، وتشجيع قسم آخر على العودة لمناطق نفوذها في الشمال السوري.
العودة الطوعية للشمال
دخلت قوات الجيش التركي شمالي سوريا عبر سلسلة عمليات عسكرية أولها ”درع الفرات“ عام 2016، من منطلق انحصر بإفشال مخطط ”قوات سوريا الديمقراطية“ الانفصالي وإيقاف تدفق موجات لجوء جديدة، مع غياب رؤية عن مصير وكيفية الإشراف على منطقة شديدة التعقيد اكتظ فيها عدد السكان ليتجاوز الـ 5 ملايين، ما شكل بيئة خصبة للفوضى الإدارية والفساد.
وغابت نية جعل المنطقة مركز جذب لهجرة السوريين العكسية من تركيا عن جدول الأعمال، حتى عرض الرئيس أردوغان مشروع المنطقة الآمنة الممتدة على طول الحدود السورية التركية عام 2019 في الجمعية العامة للأم المتحدة، والتي قوبلت برفض دولي. ليخرج الرئيس التركي هذه المرة منتصف عام 2022 بمشروع إعادة مليون سوري لعشرات آلاف البيوت التي ستشرف الحكومة التركية على إنشائها، لتظهر الحاجة الملحة لتطوير المنطقة وتعزيز التنمية فيها.
بعد تجاوز الانتخابات الصعبة هذا العام بنجاح، من المتوقع أن تعمل الحكومة الجديدة خلال الأشهر والسنين القادمة على تطوير وتنمية منطقة نفوذها في الشمال السوري، لجعلها منطقة خضراء تجذب شريحة من السوريين في تركيا وتعزز من موقعها ضمن أي مسار تفاوضي في المستقبل، عبر سياسات وآليات حقيقية وبنية قانونية تدعم بيئة الاستثمار وتدفع بالعجلة الاقتصادية.
اندماج السوريين في البلاد
في المقابل، بات الكثير من الفاعلين الأتراك، على مستوى الحكومة والبيروقراطية التركية، بل وحتى مختلف الأحزاب المعارضة وقادة الرأي العام، على قناعة تامة بأن عدداً معتبراً من السوريين لن يعودوا لبلدهم الأم مشكلين جزءاً لا يتجزأ من تركيا، ومشيرين للمكاسب التي يمكن تحقيقها عبر المواطنين الجدد القادمين من سوريا، سواء على المستوى الاقتصادي، أو على المستوى الديمغرافي بسبب انحدار مستوى الولادة في البلاد، ويبقى النقاش حول حجم هذه الشريحة ومراحل وسبل دمجها في المجتمع، أو حول تتريكها بشكل كامل مقابل السماح بالتعددية الثقافية بالبلاد.
من المتوقع أن تحمل الشهور والسنوات القادمة إجراءات ترسخ من وجود شرائح من السوريين في تركيا، سواء عبر منحهم الجنسية التركية أو عبر استحداث صفة قانونية تعطيهم المزيد من الثقة والشعور بالأمان مقارنة بـ ”وثيقة الحماية المؤقتة“، بالإضافة لسياسات تنظم شؤون حَمَلة ”الحماية المؤقتة“ وفق رؤية استراتيجية غابت طيلة سنين. ومن الممكن أن يشهد البرلمان التركي دخول أول عضو من أصل سوري في الانتخابات القادمة بعد 5 سنوات.