كان الأمير فيصل بن الحسين يزور دمشق قبل أن يصبح حاكماً على سوريا.. وكان عروبياً بالطبع، منتسباً إلى جمعية العربية الفتاة، (وفخري البارودي كان عروبياً ومنتسباً للجمعية ذاتها أيضاً).. وقد روي عن فيصل أنه كان في ضيافة آل البكري بدمشق يوم 16 أيار 1916، وعلم بخبر إعدام الشخصيات الوطنية في دمشق وبيروت من قبل جمال باشا، فهتف هتفته الشهيرة:
- طاب الموت يا عرب!
وكان فيصل ينزل، أيضاً، في منزل محمود بك البارودي بحي القنوات بدمشق، وقد أدهشه النشاط الاستثنائي للشاب "فخري البارودي"، وولعه بالآداب والعلوم والصحافة والسياسة، بدليل هربه إلى فرنسا لدراسة الهندسة الزراعية في جامعة مونبلييه، 1911، وعندما أجبره والده على العودة إلى دمشق، كان لديه أشياء كثيرة يريد قولها للناس، أشياء لا تتسع لها الجدران التي كتب عليها (تعلم يا فتى فالجهل عار)، فسارع للعمل بصفة محرر في جريدة "المقتبس"، لصاحبها محمد كرد علي، التي صدر العدد الأول منها في أواخر سنة 1908. ويبدو أن هذا العمل لم يرو حب فخري للصحافة، والمشاغبة على المجتمع الراكد، فأسس جريدة أسبوعية ساخرة، أسماها "حط بالخُرْج"، كان يحررها بنفسه، مستخدماً اللهجة العامية الدمشقية، ويوقع افتتاحياتها باسم مستعار هو: عزرائيل.
ملاحظة من صلب الموضع: مذ وعيت على الحياة، وبدأت أهتم بالأدب والإبداع، وأنا أعاني من وجود المتزمتين لغوياً حولي، وحينما كنت أتجرأ، فأستخدم جملاً حوارية عامية، كان الناصحون ينهالون علي، أنْ يا أخي تجنب العامية، أو أقلل منها، أو ضع الجمل العامية بين قوسين، وكنت، حينما أحاصَرُ، استشهد ببعض قصص الأديب الكبير الرائد يوسف إدريس (1927- 1991)، الذي لا يستخدم العامية في ثنايا قصصه وحسب، بل توجد بين أعماله الكاملة قصة مكتوبة بالعامية تبدأ بعبارة (يا نهار مش فايت).. وكان الأستاذ حسيب كيالي ميالاً إلى العامية، مدركاً أهميتها ومصداقيته بالنسبة للأدب الشعبي، ولكنه لم يجرؤ على استهدامها كيوسف إدريس، وإنما أوجد لغة خاصة يمكن تلخيصها بأنها (صياغة العامية بعربية فصيحة)، والآن أكتشف أن فخري البارودي الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين هو الأكثر إقداماً على استخدام العامية، إذ كان يحرر جريدته "حط بالخرج" بها دون حرج، وقد ذكرت لكم أنه نصح عبد اللطيف فتحي باستخدام العامية الشامية في المسرح.. ولا ننس أنه من الذين كتبوا أغنية بالعامية هي التي غناها معن دندشي وقد جاء في مطلعها:
ع الغوطة يا الله نروّح يا الله ع الغوطة
عروس الشام الحلوة، بدها زلغوطة
في اللحظة الفارقة، الفاصلة بين الحكم العثماني والحكم العربي، 3 تشرين الأول 1918، جاء فيصل إلى دمشق ليقيم فيها دولة عربية (هاشمية)، تنفيذاً لأحد بنود مراسلات والده الشريف حسين مع السير هنري مكماهون، الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر.. ومن حينها أصبح فخري البارودي أقرب المقربين إليه، عينه، في البداية، مديراً للشرطة، ثم قائداً لموقع المقر الأميري، ثم أصبح المرافق الرسمي له، وبقي معه إلى حين انتهاء دولته بدخول الجنرال غورو دمشق 23 تموز 1920.
ولكن، وعلى الرغم من مركز الابن المحبوب المدلل الذي كان فخري يحتله لدى أبيه، لم يسلم من العقلية المحافظة التي تحكم عموم الناس، وبضمنهم أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين ينظرون إلى الصحافة بوصفها عملاً غير لائق بأبنائهم.. فاحتج محمود بك على انخراط ولده الوحيد في عالم الصحافة، بل وأجبره على التخلي عنها، فاضطر لأن يعمل كاتباً في العدلية (هل هذا العمل أحسن من الصحافة؟!)، ثم متطوعاً في الجيش العثماني، مع أنه معفى من الخدمة العسكرية، وأفرزته القيادة العسكرية العثمانية إلى بئر السبع، فوقع أسيراً بيد الإنكليز، وبقي عندهم حتى خروج العثمانيين من البلاد.
لا يمكن لهذه المقالة المؤلفة من جزأين أن تحيط بشخصية زعيم الشباب فخري البارودي، ولذلك أريد أن أقدم بعض النقاط المضيئة، أو اللافتة في سيرته، فيما يلي:
أولاً- كان يقرب منه الشخصيات التي يرى فيها خيراً لمستقبل الأدب أو الفن في سورية، ويدعمها بكل ما يملك، ومنها نجاة قصاب حسن، وصباح أبو قوس (صباح فخري) وعبد اللطيف فتحي، ونهاد قلعي. وبالمناسبة، نهاد قلعي يقلد صوت فخري البارودي في شخصية حسني البوراظان.
ثانياً- في عام 1934 أسس أول مركز دراسات وأبحاث عرفه العالم العربي باسم "مكتب البارودي للدعاية والنشر،" هدفه الرئيسي تأمين قاعدة إعلامية وفكرية للحركة الوطنية السورية، واستعان بنخبة من الشباب المقفين، ومنهم ناظم القدسي.
ثالثاً- أسس مشروع "صُنع في سورية" لدعم الصناعة الوطنية. ومشروع الفرنك لأجل تأمين الخدمات للمدينة.
رابعاً- أسس معهداً موسيقياً في سوق ساروجة. ومما يرويه نجاة قصاب حسن في كتابه "جيل الشجاعة" أن المناقشات في ذلك المعهد، استمرت، ذات ليلة حتى وقت متأخر من السهرة، وكانت حول التدوين الموسيقي باستخدام "مفتاح صول"، وكان بين الحاضرين واحد يفضل "مفتاح فا"، وبعد انفضاض السهرة، أقفل المعهد وبقي المفتاح مع فخري البارودي. وعندما وصل البيت رن هاتفه، وإذا بصاحبنا المؤيد لمفتاح فا يتصل من المعهد ويقول إنه كان في التواليت والباقون أقفلوا المعهد وغادروا، فالرجاء إرسال (مفتاح) المعهد لكي يخرج. فضحك فخري، وقد حضرته النكتة، وقال له:
- خلي مفتاح فا ينفعك يا تَرَس!
خامساً- عدا عن إيمانه بضرورة الفن لتطوير المجتمع السوري، كان فخري البارودي من أنصار تحرر المرأة، وقد خاض سجالاً فكرياً مهماً خلال كتابه "فصل الخطاب بين السفور والحجاب، وفي سنة 1951، حصلت مواجهة بينه وبين قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي حول رقصة السماح، التي كان البارودي ينوي إحياءها، بعدما كانت في زمنٍ مضى حكراً فقط على المشايخ والمتصوفين. قرر البارودي، تبني هذه الرقصة وتعليمها طالبات مدرسة دوحة الأدب التي كانت تدرس صفوة بنات الأسر الدمشقيّة. رأى البارودي أن هذه الرقصة الأندلسية سوف تندثر وتموت إن بقيت محصورة في عالم المشايخ، فقرر عصرنتها بالتعاون مع "عادلة بيهم الجزائري"، ومؤسسة مدرسة دوحة الأدب. قام بإحضار الشيخ عمر البطش من حلب، وهو الحافظ للموشحات وأكبر مرجع في الغناء القديم، ليقوم بتدريب الفتيات على الغناء، وفصّل لهن ثياباً من الحرير زاهي اللون ليظهرن بها على خشبة مسرح قصر العظم، ويقدمن حفلاً راقصاً، بحضور رئيس الوزراء خالد العظم والعقيد أديب الشيشكلي، حاكم سورية العسكري. عدّل البارودي، وهو شاعر مُحترف، على كلمات الموشحات، فبدلاً من التضرع والدعاء أدخل عليها عبارات العشق والغرام. يعترف الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته بمكانة البارودي الاجتماعية والسياسية، وبأنه كان من شيوخ النضال ضد المستعمر، قائلاً: "هو أبرز الزعماء الوطنيين الشعبيين في دمشق، غني واسع الغنى، كريم شديد الكرم، خفيف الروح، ساحر الحديث، حاضر النكتة.