يبدأ الفيديو ببراءة، حيث يظهر جندياً يرتدي بنطالاً مموهاً وقميصاً أسود وهو يتحدث إلى رجال معظمهم خارج الكادر، ويؤكد على كلامه بحركات يده اليمنى، فيما يتدلى مسدس من يده اليسرى، ويجلس رجل آخر خلفه راكعاً، ويداه خلف رأسه. وبعد مرور دقيقة من ذلك الفيديو، نرى الرجل صاحب القميص الأسود وهو يصوب مسدسه ثم يطلق النار فجأة فيخر الرجل الراكع صريعاً وعندها يتجه الجندي نحوه ثم يطلق طلقتين على رأس السجين.
وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على هذا المقطع، يتحول هذا الفيديو إلى محور الأدلة في قضية جديدة رفعت أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولهذا فقد أصدرت النيابة في لاهاي مذكرة اعتقال بحق الرجل الذي كان يرتدي قميصاً أسود، وهو محمود الورفلي قائد ميليشيا في ليبيا، بعدما وثقت فيديوهات انتشرت على الشبكة دوره في قتل 33 شخصاً. ثم إن الأدلة التي تدين الورفلي، بخلاف الأدلة التي تم تقديمها في أي قضية أخرى في تاريخ المحكمة، تعتمد بشكل أساسي على توثيق وسائل التواصل الاجتماعي. إذ بدون تلك الفيديوهات لا يمكن للنيابة أن تقيم أي قضية.
وبالرغم من أن فيديوهات الورفلي تصدرت عناوين الصحف، إلا أنها لم تكن فريدة من نوعها، وذلك لأن الأدلة التي تدور حول أكثر الجرائم فظاعة على مستوى العالم، والتي تشمل الإبادة الجماعية، والتعذيب، وتدمير التراث الثقافي، تنتشر في وقتها على منصات مثل فيس بوك وتويتر ويوتيوب. وإننا إذ نفهم قيام تلك الشركات بإزالة غالبية المحتوى الذي يشتمل على صور بعيداً عن أعين عامة الناس بين الحين والآخر، نتبنى موقف المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين الذي يرون أن إتلاف تلك الأدلة يقوض أي ادعاءات يمكن أن تقوم مستقبلاً، كما يحرم الضحايا من العدل الذي يستحقونه.
وبالنتيجة أصبحت شركات التواصل الاجتماعي في ورطة، إذ لا بد لها أن تمنع منصاتها من نشر المحتوى المؤذي على نطاق واسع، مع الاحتفاظ في الوقت ذاته على القدرة على الوصول إلى الأدلة التي تثبت القيام بجرائم بالجملة. قد يكون الحل الناجع هنا هو الاعتماد على ما يعرف بخزائن الأدلة، وهي عبارة عن مستودعات قائمة بذاتها مخصصة للأدلة التي يحتمل أنها توثق شيئاً والمأخوذة من وسائل التواصل الاجتماعي، وتديرها منظمات خارجية غير ربحية أو شركات التواصل الاجتماعي بنفسها. وهذا النوع من المحفوظات موجود بالأصل في مجالات قانونية أخرى، إلا أنه يتعين على شركات التقانة بالإضافة إلى المنظمات الحقوقية أن تعتمد على هذا النموذج المجرب في إنشاء أقبية مخصصة لوثائق حول جرائم الحرب.
أقبية مخصصة للأدلة
إن فكرة تخصيص خزائن للأدلة ليست بجديدة، إذ وجد قسم المحفوظات لحفظ الأدلة التي توثق سلسلة الأنشطة الإجرامية والتي تشمل الإرهاب والمواد الإباحية التي تحتوي على أطفال، وتجارة الآثار، كما أنها تقوم بتصنيف المواد التي تتمتع بقيمة بحثية أو تاريخية أو تعتبر بمثابة أدلة، إلا أن شركات التواصل الاجتماعي أو من يقوم برفع تلك المواد قد يقوم بحذفها بعيداً عن أعين عامة الناس. ولهذا تختلف تلك الأقبية المخصصة لهذا الغرض تبعاً لمن يحتفظ بالمحتوى ولمن يقوم بتقديم المواد (شركات التواصل الاجتماعي أو أطراف خارجية)، وهل تلك الشركات أجبرت قانونياً على الاحتفاظ بذلك المحتوى أم لا، بالإضافة إلى من يمكنه الوصول إلى المحفوظات.
وعند تصميم أقبية مخصصة لحفظ أدلة حول جرائم الحرب، يجب أن تدور أول أولوية حول إمكانية حفظ المحتوى لفترات طويلة من الزمن، وذلك نظراً للفارق الزمني الكبير في كثير من الأحيان بين ارتكاب تلك الجرائم وبداية التحقيقات القانونية حولها. وبما أن الأدلة تتمتع بحساسية كبيرة في الغالب الأعم، لذا يجب أن تشتمل تلك الأقبية أيضاً على حراسة متسقة وواضحة لتتبع من يمكنه الولوج ومشاهدة المعلومات المحفوظة. ثم إن من يقومون بتصميم أنظمة لحفظ المحتوى يجب أن يفكروا أيضاً بكيفية تحول تلك المستودعات إلى مستودعات تتبع النموذج الاستعماري القديم حيث كانت المؤسسات تعكس رغبات الداعمين الغربيين بشكل يضر بمصلحة غيرهم من الدول. إذ كثيراً ما يستشهد منتقدو المحكمة الجنائية الدولية بتركيزها الحصري على الجرائم التي ارتكبت في أفريقيا. ولمنع وقوع هذا النوع من التمييز، يجب أن تقوم الخزائن المخصصة للأدلة بحفظ المحتوى بصرف النظر عن السياسة أو الجغرافيا. كما يجب على القوانين أن تحمي المعلومات المهمة وذلك عبر وضع معايير للمحتوى الذي سيتم حفظه وحراسته مع حل التوتر القائم بين عملية الوصول والسرية والمخاوف التي تدور حول الملكية الفكرية، والاعتبارات التي تتصل بالأمن القومي.
وبعيداً عن الممارسات السابقة، ينبغي لتلك الخزائن المخصصة للأدلة حول جرائم الحرب أن تأخذ برأي المنظمات الحقوقية والدولية بخصوص ما يجب حفظه، إذ إن الحكومات والشركات هي من يقرر ذلك في أغلب الأحوال. فعلى سبيل المثال لم يكن للمحكمة الجنائية الدولية ولا للآليات الأممية الحالية التي تقوم بتوثيق الجرائم التي ارتكبت في سوريا وماينمار حالياً سلطة واضحة المعالم تفرض على الشركات ما يجب أن تقوم بحفظه من أدلة.
لذا ينبغي أن يتغير كل ذلك، فجرائم الحرب تعتبر فريدة من نوعها كونها تثبت غالباً تورط الحكومات في العنف وبالتالي عدم قدرتها أو عدم رغبتها بمحاسبة نفسها على ذلك. ولكن عند منح المنظمات الحقوقية والإنسانية الحق بالمطالبة بتلك الأدلة المحفوظة إلى أن يتسنى للمحاكم أو غيرها من الجهات الفاعلة القانونية أن تتدخل، يمكن لشركات التواصل الاجتماعي أن تضمن حماية المواد الحساسة من الإتلاف.
لماذا تهتم الشركات بهذه القضية
في ظل غياب قانون صادر عن الكونغرس يفرض على شركات التواصل الاجتماعي أن تقوم بإنشاء مستودعات للأدلة، لماذا يتعين على شركات مثل فيسبوك وتويتر أن تقوم بذلك؟ لعله من الأسهل بالنسبة لتلك الشركات أن تقوم بحذف المحتوى بكل بساطة لتتجنب الإجراءات البيروقراطية المعقدة لهيئات حفظ القانون وللمنظمات الحقوقية وللمحاكم الدولية.
غير أن القواعد والقوانين الدولية تقدم لنا إجابة واحدة، إذ بحسب المبادئ الإرشادية للأمم المتحدة حول الأعمال وحقوق الإنسان من المتوقع بالنسبة لشركات التواصل الاجتماعي أن تحترم وتحمي حقوق الإنسان، وأن تجتنب الأنشطة التي تسبب انتهاكات أو تسهم فيها، وأن تمنع أي خرق لهذه القواعد المرتبطة بعملياتها أو أن تخفف من حدته. ولهذا تقع عملية حفظ المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي ومشاركة تلك البيانات مع السلطات المعنية ضمن تلك الإرشادات. وبالفعل قامت العديد من شركات التقانة الكبرى وعلى رأسها مايكروسوفت وفيس بوك بالتعبير عن دعمها لتلك المبادئ، كما أعلنت عن قيامها بخطوات لتحسين التزامها بتلك المبادئ عبر ما تقوم به من ممارسات.
بيد أن الشركات لديها دوافع مادية لتقوم بالمشاركة في هذا، إلا أن النواب والمعلنين وموظفي الشركات والمستخدمين مارسوا ضغوطات على الشركات لتحسين أدائها في مجال دعم حقوق الإنسان والحقوق المدنية، فمثلاً، أطلقت منظمات مهتمة بالحقوق المدنية مؤخراً حملة تحت وسم: #أوقفوا_الكراهية_من أجل_الربح وذلك للضغط على فيس بوك لتعالج خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي على منصتها. أما موظفو جوجل فقد احتجوا هم أيضاً على تورط الشركة في مشروع مافين، وهو مشروع أطلقه البنتاغون ويقوم على تحسين استخدام الذكاء الصناعي لأغراض عسكرية، بينها الغارات التي تنفذ بطائرات مسيرة، فانسحبت جوجل من ذلك المشروع في نهاية الأمر. ولهذا يعتبر التلويح بالقانون، وخسارة عوائد الإعلانات، والضرر الذي يلحق بمعنويات الموظفين، والدعاية السيئة كل ذلك يعتبر دوافع قوية بالنسبة للشركات تحفزها على تحسين سجلاتها فيما يتصل بمحاسبة مجرمي الحرب.
ويحسب للعديد من الشركات أنها بدأت بمشاركة المنظمات الحقوقية في عملية البحث في إمكانية إنشاء خزائن مخصصة للأدلة المتعلقة بجرائم الحرب، فقد قامت شركات التواصل الاجتماعي بتشجيع من الباحثين الحقوقيين بنشر فكرة وضع البيانات في مستودع مستقل أو الاحتفاظ بالمعلومات بطريقتها بكل بساطة. إذ على الأقل، اعترف كثير من تلك الشركات بأنها ملتزمة أخلاقياً، وأحياناً قانونياً، بحماية العامة من المحتوى المسيء مع ضمان بقاء المعلومات المهمة متاحة للجهود التي تبذل في سياق العدالة الدولية.
ومع ذلك ما تزال هنالك تحديات، أولها تحديد المحتوى الذي يجب أن يحفظ، وذلك لأن مصطلحات مثل الإرهاب وخطاب الكراهية وجريمة حرب قد تعطي دلالات متفاوتة بطريقة غير مريحة، وهذا ما يصعب عملية الكشف الآلي عن المحتوى المطلوب، فالخوارزميات لا تقوم بعملها بشكل صحيح في حال وجود أي غموض أو التباس. وبالرغم من ذلك، يمكن للمدافعين عن هذه الفكرة وللشركات حل هذه المشكلة بالنظر إلى الجهود التي بذلت في السابق لمحاربة الأنشطة غير القانونية، إذ يمكن للشركات مثلاً أن تعتمد على تعاريف استخدمتها هيئات رسمية مثل المفوضية العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أو التركيز بصورة أساسية على قضايا الانتهاكات الواضحة مثل القتل الجماعي أو استخدام الأسلحة الكيماوية التي يمكن أن تخضع للتفتيش من قبل مشرفين وآلات.
وهنالك تحد آخر يتمثل بالتوصل إلى طريقة لإتاحة المحتوى لمن يقوم بالتحقيق في جرائم الحرب مع حماية خصوصية المستخدمين الذين نشروا تلك البيانات، بالإضافة إلى حماية خصوصية من ظهروا في تلك المنشورات، وتلك قضية أخلاقية وقانونية في آن واحد. وثمة طريقة لمعالجة المشكلات التي تتصل بالخصوصية وتتمثل بارتكاب الخطأ على حساب الحيطة والحذر، أي القيام بحفظ البيانات ثم الحد من عدد من يمكن أن يصلوا إليها بشروط.
الإرث الرقمي
في الأول من كانون الأول ستدخل المفوضية العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في شراكة مع مركز حقوق الإنسان في بيركلي التابع لكلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا، ليقوما بإطلاق بروتوكول بيركلي حول تحقيقات المصادر المفتوحة الرقمية.
وهذا البروتوكول الذي يعتبر جزءاً من الجهود الدولية لتحديد معايير تتصل باستخدام المحتوى الموجود على الشابكة في القضايا الجنائية الدولية يعكس مدى الاعتراف المتزايد بقوة المعلومات الموجودة على الشابكة وقدرتها على دعم عملية محاسبة انتهاكات حقوق الإنسان على المستوى العالمي. وقضية الورفلي ما هي إلا مثال على ذلك، ففي الخامس من تشرين الأول، رفعت منظمات حقوقية قضية تاريخية في ألمانيا اتهمت فيها نظام بشار الأسد بارتكاب جرائم حرب، وقد اعتمدت تلك المنظمات في الادعاء على الأدلة التقليدية وعلى المعلومات المأخوذة من وسائل التواصل الاجتماعي. ثم إن العديد من القضايا الأخرى المرفوعة أمام المحاكم الأوروبية في الوقت الراهن تعتمد على جمع مماثل بين هذين النوعين من الأدلة.
ومع توسع استخدام الأدلة التي يتم جمعها من وسائل التواصل الاجتماعي في قضايا جرائم الحرب، يتعين على الشركات والمنظمات الحقوقية أن تبتكر نظاماً رصيناً لحفظ المحتوى الذي لا يعوض، وذلك لأنه بدون هذا النظام يمكن أن تنجو الجرائم الجماعية التي وثقت في حينها على وسائل التواصل الاجتماعي من العقاب.
المصدر: فورين أفيرز