شرقُ أوسطٍ جديد من رحم القديم

2024.10.14 | 05:57 دمشق

الشرق الأوسط - المصدر: الإنترنت
+A
حجم الخط
-A

تتدحرج منطقة الشرق الأوسط نحو مزيد من الحروب والدمار، وسيتحدد شكل العلاقة بين إيران وإسرائيل، أو بين محوري الصراع الأساسيين على المنطقة، وفق الرد الإسرائيلي على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير.

هذا الردّ الذي يتم التخطيط له بعناية فائقة وتنسيق مباشر مع القيادات السياسية والأميركية على أعلى المستويات، سيضع قواعد جديدة للعلاقة بين دول المنطقة برمّتها.

يأتي التصعيد الإسرائيلي في لبنان ضمن هذا السياق، كذلك كانت عمليات الاستهداف الممنهج ضدّ الميليشيات الإيرانية والقوات السورية القريبة منها والشخصيات القيادية للحزب في سوريا جزءًا من السيرورة ذاتها.

إنّ قرار إنهاء "حزب الله"، أقلها كقوة عسكرية ضاربة استحوذت على الدولة اللبنانية، ليس إلا بداية الطريق نحو إنهاء الحالة التي أورثها التمدد الإيراني في البلاد التي وصلت إليها عبر وكلائها المحليين.

لقد كان "حزب الله" درّة تاج الأدوات الإيرانية في المنطقة، فهو الجهاز الأكثر تنظيماً وتدريباً وولاءً، وهو القادر على الانتقال من بلد إلى بلد كما حصل في سوريا والعراق واليمن لينفّذ السياسة الإيرانية بحذافيرها.

لا شكّ بأنّ القيادة الإسرائيلية، الأكثر يمينية وتطرفاً منذ إنشاء هذا الكيان، تدرك حجم الفرصة المُتاحة أمامها الآن لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط كما حصل قبل قرنّ من الزمان

سيتبع ذلك على ما يبدو إنهاء الميليشيات في المنطقة والبدء بعملية ترسيخ دول مستقرّة لا تشكّل أي تهديد أمني لإسرائيل على المدى البعيد. لا يعني هذا أنّ ما تفعله إسرائيل سيأتي بالحرية والديمقراطية لشعوب المنطقة، فهذا رهنٌ بعوامل أخرى لا مجال للحديث عنها هنا، ومن يتصوّر أنّ إسرائيل هي الملاك المخلّص هو واهمٌ بكل تأكيد، فمن يمارس العنصرية والقتل بحق الفلسطينيين في بلادهم لن يمنحنا ما هو أفضلٌ منها في بلادنا.

لا شكّ بأنّ القيادة الإسرائيلية، الأكثر يمينية وتطرفاً منذ إنشاء هذا الكيان، تدرك حجم الفرصة المُتاحة أمامها الآن لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط كما حصل قبل قرنّ من الزمان.

ليست إسرائيل بحجم هذه المهمّة وحدها بالتأكيد، لكنّ فائض القوّة الذي منحه إياها الدعم الغربي والأميركي اللامحدود، وفائض الهزيمة الداخلية لدول المنطقة التي دمّرت ذواتها عبر استهداف الأنظمة الحاكمة شعوبها وإعاقتها عن المضيّ قدماً في طريق التطوّر، والتقدّم الهائل في مجالات التصنيع العسكري والتكنولوجيا العالية والأمن السيبراني الذي حقّقته إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، هذه العوامل كلّها تجعل المهمّة أيسر وأسهل، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أنّ العديد من الدول العربية الغنيّة تدعم هذا المنهج الإسرائيلي من دون أن تصرّح بذلك علناً.

السؤال الذي يشغل بال كثيرين الآن، هل سينتج عن هذا الصراع شرقُ أوسطٍ جديدٍ مستقر، وما هي أسسه، وما هو شكل العلاقات الإقليمية بين مراكز القوّة الجديدة فيه، وما هو مصير مراكز القوّة القديمة، وهل ستبقى بعض الدول مثل سوريا ولبنان موحّدة أم سيطالها التقسيم ثانية؟

إنّ تلمّس عناصر هذا التخلّق الجديد ليس بالأمر اليسير، لأسباب عديدة منها العقلية الإسرائيلية من جهة، والعقلية المقابلة لها في "محور المقاومة" من جهة ثانية.

يعمل الإسرائيليون على امتلاك أسباب التفوّق الحاسم، فهم يبنون دولة مؤسسات (تبقى بالنسبة لنا دولة احتلالٍ استيطانيٍ إحلاليٍ وفصلٍ عنصريٍ تخصّ جزءاً من سكانها وتستبعد السكان الفلسطينيين الأصليين وتمنعهم من التمتع بمزاياها)، ويعتمدون على استثمار منجزات التطور في كل المجالات متأثرين بحلفائهم الغربيين، في حين يعمل المحور المقابل، محور المقاومة، على تهديم بنى الدول حيثما حل وارتحل، وهذا يقود بالضرورة إلى الابتعاد عن عنصر القوّة الأساسي الذي يمتلكه ويتفوّق فيه على الخصم، أي الإنسان.

إنّ عوامل تطوّر المنطقة وازدهارها موجودة ومتوفرة، لكنّ الاستقرار يحتاج بكل وضوح للثقة واحترام المصالح المتبادلة، وهذا ما لا تريده إسرائيل بقيادتها اليمينية المتطرفة الآن

هكذا نصبح في معادلة غير متكافئة على الإطلاق، فإسرائيل على الرغم من كل المصاعب التي تمرّ بها بدءاً من معركة طوفان الأقصى، إلا أنها ما تزال مستقرّة داخلياً من حيث تعاضد مؤسساتها وتكاملها. في حين بدأت مظاهر انهيار المنظومة المقابلة سريعاً في الميدان العسكري من خلال انعدام القدرة على وقف الخروقات الاستخبارية المرعبة التي أدّت لقتل أهمّ قيادات المحور من جهة، وسياسيًا من خلال التحوّل في خطاب قيادة هذا المحور نحو المهادنة بل الاستجداء من جهة ثانية.

إنّ عوامل تطوّر المنطقة وازدهارها موجودة ومتوفرة، لكنّ الاستقرار يحتاج بكل وضوح للثقة واحترام المصالح المتبادلة، وهذا ما لا تريده إسرائيل بقيادتها اليمينية المتطرفة الآن.

لقد مدّت مجموعة الدول العربية والإسلامية أيديها لصنع السلام في المنطقة من خلال تطبيق حلّ الدولتين والذي لا بدّ أن يسفر عن إنشاء دولة فلسطينية في النهاية، لكنّ نتنياهو وحكومته، بل غالبية الإسرائيليين رفضت ذلك وترفضه بعناد ما بعده عناد.

قد يكون العرب بغالبيتهم متفرجين على المشهد من بعيد، لكن ثمّة دول عربية تسهم في رسم ملامح المنطقة بفاعلية واضحة منذ عدة أعوام، ولا يقدح في جدوى هذه الفاعلية بالطبّع شيء من عدم الأخذ باعتبارات القيم والمبادئ، فالعلاقات الدولية تقوم على أساس المصالح لا الأخلاق، وإن كان ثمّة اعتبارات تاريخية لا يمكن التغاضي عنها، فالصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد سياسة، بل هو وجودٌ إنسانيٌ وحقوقٌ مهدورةٌ ما يزال أهلها متمسكين بها ولن يبرحوا ذلك حتى يحصلوا عليها.

قد يكون مسار التطبيع الراهن مع إسرائيل مدخلًا لبناء دولة فلسطينية مستقلة، لكن قد تكون نتائجه كارثية أيضاً كما كانت اتفاقيات أوسلو، وربمّا أتى هجوم السابع من أكتوبر ليطلق شرارة التحوّل السريع والعنيف عوضاً عن المسار الهادئ الذي كانت تسير به دول المنطقة الرئيسية في علاقاتها مع إسرائيل.

تُرسم ملامح الشرق الأوسط هذه الأيام من جديد بالحديد والنار كما رُسمت قبل مئة عامٍ وأكثر..

تستثمر بعضُ أطراف الصراع الآن في العلوم المختلفة وفي الفنون والآداب والفلسفة والإعلام وفي كل شيء أنتجته الطبيعة أو صنعه البشر، وهذا دأب الإنسان عبر تاريخه، فالبقاء للأقوى وليس للأفضل، والأقوى هو الأقدر على امتلاك أسباب التطور والتكيّف، وهذا ما تأتي به العناصر السالفة، لكنّ هذا وحده لا يكفي لبناء الدول واستمرارها، بل لا بدّ من تحويله إلى مكاسب ثابتة، وهذا يتم عبر السياسة.

تُرسم ملامح الشرق الأوسط هذه الأيام من جديد بالحديد والنار كما رُسمت قبل مئة عامٍ وأكثر، وفي نهاية الصراع قد يحصل انهيار بعض الدول ونشوء غيرها، وقد نجد أنفسنا بين ليلة وضحاها أمام شرقِ أوسطٍ جديد ظهر من رماد الشرق الأوسط القديم.