يتصاعد النزاع شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط، ليؤكد العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والسياسة، مع دخول أطراف دولية وإقليمية إلى الساحة، فبحسب معطيات السياسة الدولية القائمة ما تعجز الدول عن تحقيقه في بقعة ما من العالم يمكن تحصيله بالضغط في مكان آخر، خاصة إذا كان ذلك المكان بيئة خصبة لنمو الأزمات.
تتداخل الحدود البحرية "شرقي المتوسط" بين مصر و"إٍسرائيل" وقبرص ولبنان وتركيا واليونان، لكن دولاً بعيدةً جغرافياً عن المنطقة المتنازع عليها، أصبحت تصرح يومياً وكأنها صاحبة حق في الثروة، في وقت يخشى فيه من تطور النزاع السياسي إلى عسكري بين الدول المتشاطئة، وسط استقطابات سياسية وأزمة اقتصادية عالمية حادة.
وتشير البيانات الصادرة عن هيئة المسح الجيولوجي الأميركية إلى احتمالية وجود نحو 122 تريليون متر مكعَّب من احتياطي الغاز في حوض شرقي المتوسط، إضافة إلى ما يقارب من 107 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج.
ويتجاوز احتياطي الغاز في شرقي المتوسط، احتياطي الغاز الطبيعي في روسيا التي تحتل المرتبة الأولى عالميا بـ احتياطي قدره 35 تريليون متر مكعب.
تركيا تحذر
تعتزم تركيا إصدار تراخيص للتنقيب عن الغاز في المنطقة في مكان ما بين جزيرة كريت اليونانية وقبرص خلال آب الجاري. ومع فشل الوساطة الألمانية في تحقيق اختراق للأزمة، حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من أن أدنى هجوم ضد السفن المدنية التركية شرقي المتوسط "لن يبقى دون رد".
مؤكداً أن سفينة التنقيب "أوروتش رئيس" ستواصل أعمالها شرقي المتوسط حتى 23 من آب الجاري. وتابع قائلاً في معرض رده على سؤال حول محاولة فرقاطة يونانية التحرش بسفينة التنقيب "أوروتش رئيس"، "إن التطورات في شرق المتوسط "مضطربة".
وأضاف"هذا ما حدث الخميس (محاولة التحرش بسفينة أوروتش رئيس)، حيث قامت سفينة كمال رئيس بالرد اللازم على ذلك، وعقب ذلك انسحبوا (فرقاطة يونانية) إلى مينائهم.. لا يمكننا ترك ذلك بدون رد".
وتسعى اليونان وإدارة جنوب قبرص اليونانية إلى إبعاد تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية، عن الثروات الطبيعية الموجودة في البحر المتوسط بحسب وكالة الأناضول. حيث أنشأت مصر واليونان وإيطاليا وقبرص وإسرائيل "منتدى غاز شرق المتوسط" في كانون الثاني 2019 بهدف إنشاء سوق غاز إقليمي، وتسهيل عبور الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مستبعدة تركيا من هذه الصفقة.
كما وقّعت اليونان ومصر "اتفاقية ترسيم مناطق الصلاحية البحرية"، في خطوة رفضتها أنقرة مؤكدة "بطلان الاتفاقية".
ومع تداخل المصالح الإقليمية والدولية في المنطقة، طالبت تركيا فرنسا بتجنب الخطوات التي من شأنها زيادة التوتر شرقي المتوسط، بعد أن أجرى الجيش الفرنسي تدريبات مع القوات اليونانية في المنطقة يوم الخميس الفائت، وهو ما بدا مغايراً لدعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتهدئة.
وكان ماكرون قد شدد مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، على ضرورة خفض التوتر في منطقة شرق المتوسط بين تركيا واليونان. وكانت فرنسا قد قالت إنها ستنشر طائرتين من طراز "رافال" وستعزز وجودها في شرق المتوسط بالسفينة لافايت في إطار خطة لدعم وجودها العسكري بسبب عمليات التنقيب التركية.
ماذا يقول القانون البحري؟
غالبا ما يكون صعباً ترسيم الحدود البحرية بين الدول ذوات السواحل المتقابلة أو المتجاورة كما هي الحال عليه شرق البحر المتوسط، بسبب تشابك الجروف القارية للدول. وقد اعتمدت اتفاقية 1958 على معيار خط الوسط لتحديد الجرف القاري بالنسبة للدول المتقابلة ومعيار تساوي البعد بالنسبة للدول المتجاورة، إلا أن هذه المعايير غير إلزامية ويجوز للدول الاتفاق على ترسيم حدودها البحرية بالاتفاق فيما بينها، استناداً إلى مبدأ سيادة الدول.
صلاح زين الدين أستاذ القانون البحري في جامعة قطر، أوضح خلال حوار ضمن برنامج "مؤشر الحدث" على تلفزيون سوريا، أن الاتفاق المبدئي للنزاعات البحرية تفاهم مؤقت، ومن ثم يجب تطويره لاتفاق دائم ومن ثم يتم الترسيم النهائي للحدود بحسب مبادئ الأمم المتحدة، ويضيف أن النزاع الحالي بين دول شرق المتوسط له أسباب تاريخية واقتصادية وجغرافية، مشدداً على أن العامل السياسي غالب على النزاع "المعقد والمهم".
ولفت "زين الدين" إلى أن موقف مصر مستغرب لسببين الأول لأنها خسرت بالاتفاق مع اليونان مساحات واسعة من المنطقة البحرية التي كان من الممكن أن تكون تحت سيادتها، والثاني اتخاذ القرار بسرعة مدفوعة بالخلافات مع الحكومة التركية في ليبيا ومناطق أخرى، أي أنها أعطت الأولوية للدافع السياسي أكثر من أي أمر آخر.
ويضيف أن المرجعية يجب أن تكون قانونية وفق الأمم المتحدة والقانون الدولي وقانون البحار، مشيراً إلى أن الاتفاقيات قد تكون ثنائية وهي تراضٍ بين طرفين أو جماعية بين عدة دول، ولتكون صحيحة لا بد من توافر شروط شكلية وموضوعية، فالاتفاق الثنائي يوقع من الأطراف بالتراضي وهو ملزم لطرفيه فقط ولا يلزم أطرافاً أخرى، أما الاتفاقات الدولية مثل قانون البحار فهو ملزم للجميع وكلاهما يرتب التزامات على أطرافه.
ويتابع " إذا لم تكن الاتفاقات الثنائية مرضية بسبب تضارب مصالح فالحل للنزاع البحري العودة للقانون الدولي لكن لابد من احترام سيادة الدول وحقوقها والأهم حسن النية التي تعد أساسية لتطبيق مبادئ القانون الدولي بحسب الأمم، اتفاقية عام 1982 نظمت حقوق كل دولة وتركيا لم توقع وأميركا أيضا على سبيل المثال لكن عدم توقيع الدول لايعني أنها لا تستطيع اللجوء للقانون لحل الأزمة من خلال أحكام الاتفاقية".
بداية أزمة شرق المتوسط
ظهرت بوادر الأزمة عام 2003 عندما بدأت قبرص اليونانية توقيع اتفاقيات ثنائية لترسيم الحدود البحرية، ثم ازدادت هذه الاتفاقيات بين دول أخرى متشاطئة، وذهبت بنفس الاتجاه ثم تفاعلت الأزمة شرقي المتوسط.
ويقول سمير صالحة أستاذ العلاقات السياسية والدولية لتلفزيون سوريا ضمن برنامج "مؤشر الحدث"، إن الأزمة بين تركيا واليونان ليست تنافساً على الغاز والطاقة بل هي أزمة ثنائية وإقليمية بينها خلافات أخرى مثل جزيرة قبرص وجزر بحر إيجة والجرف القاري، كما أن بعض اللاعبين يريدون أن يستفيدوا ليس فقط من التوتر التركي - اليوناني بل من التوتر التركي - المصري أيضاً، في إشارة إلى السعودية والإمارات.
ويضيف صالحة أن تركيا تشعر بوجود حالة اصطفاف ضدها، بدأت في منتدى الطاقة السباعي الذي لم تدع إليه، إضافة إلى تزايد الخلاف مع البيان الخماسي في القاهرة و"اللافت فيه أنَّ دولاً ليس لديها شواطئ على للمتوسط تريد تصفية حسابات مع تركيا مثل فرنسا التي تحاول أن تقود المشهد سواء في إيجة أو شرق المتوسط".
أزمة متعددة الأطراف
يقول د.علي باكير الباحث في العلاقات الدولية لـ موقع تلفزيون سوريا، إن حل الخلاف بين دول شرق المتوسط يتطلب حواراً وتفاوضاً، ومن دون ذلك لا يمكن استثمار الثروات في المنطقة، كما أنه لا يمكن استبعاد أو عزل أي من الدول الأطراف، خاصة إذا كانت الدولة كبيرة ولها أطول ساحل مثل تركيا على سبيل المثال، أو كـ القبارصة الأتراك، و بغض النظر عن وضع شمال قبرص القانوني، فالقبارصة الأتراك لهم حقوق في جزيرة قبرص وبالتالي لهم جزء من الغاز. خاصة أن هناك العديد من الدول خارج منطقة شرقي المتوسط تغذي الصراع وتدفع نحو التصادم ومنها فرنسا والإمارات والسعودية.
ويتابع باكير"مع تزايد التنافس شرقي المتوسط وازدياد التحريض الخارجي من دول ليس لها مصلحة هناك من الممكن حصول خطأ في الحسابات يؤدي بالانزلاق لصراع مسلح وهو أسوأ السيناريوهات، المؤشرات تقول إن لبنان أيضاً يدخل في عين العاصفة من خلال الدور الفرنسي بعد تفجير مرفأ بيروت وهذا الدور مدعوم من الإمارات، وهناك من يقول إن فرنسا لم تكن لترسل حاملة المروحيات "تونير" وعلى متنها 700 جندي إلى لبنان من دون ضوء أخضر إيراني أو من ميليشيا حزب الله لأن باريس تريد أن تضمن سلامة قواتها، هذا المحور هو الذي يقود الآن الحملة ضد تركيا شرق المتوسط، إذا ما صح هذا التحليل يعني أن لبنان دخل في المعادلة دون إغفال أن لبنان يعاني من مشكلات بسبب الترسيم غير القانوني الذي قامت به قبرص بشكل منفرد مع لبنان وإسرائيل وأدى إلى تداخل في الحقول 9-8-10 هناك مسعى أميركي لحل الخلاف اللبناني - الإسرائيلي الناجم عن خطوة قبرص، من الممكن أن يحصل سباق على لبنان لناحية إما ترسيم الحدود من جديد مع تركيا أو إدخال لبنان في منتدى الغاز المصري وهذا سيعقد الأمور".
روسيا تراقب
لـ روسيا أكبر مورد للغاز إلى أوروبا، والتي عززت وجودها على السواحل السورية مصالحها أيضاً، وهي موجودة في شركات التنقيب في لبنان ومن خلال حصص الغاز في مصر، وعبر التمويل في اليونان وقبرص، ولها أنابيب لنقل الغاز في تركيا وهي تبقي خياراتها مفتوحة وتراقب النزاع شرقي المتوسط.
ويرى "باكير" أن مصلحة روسيا تقتضي ألا يتم تقويض دورها كمزود رئيسي للغاز إلى أوروبا، وأن يكون لها يد في الاطلاع وإدارة موارد الغاز التي ستصدر إلى أوروبا، ويضيف أنه ربما يكون لروسيا مصلحة في تقويض خط غاز "إيست ميد" على اعتبار أنه سينقل غاز شرقي المتوسط إلى أوروبا، كما قد يكون لها مصلحة في الاتفاق التركي – الليبي، إذا ما تم دعوتها للاستثمار، إذ يرجح أن الجانب اليوناني لن يقوم بدعوة شركات روسية بل سيدعو شركات أوروبية.
ويلفت أن روسيا تسيطر على الساحل السوري بالتالي سوريا خارج المعادلة حتى الآن، وزمام المبادرة بيد روسيا من هذه الناحية.
وقدرت الهيئة الجيولوجية الأميركية احتياطيات سوريا من الغاز الطبيعي في البحر المتوسط بـ 700 مليار متر مكعب، في حين أن إجمالي الاحتياطيات السورية من الغاز بعد إضافة العديد من الاكتشافات الجديدة بلغ 28 تريليون متر مكعب، وتوقع مركز فيريل للدراسات في برلين، أن تحتل سوريا المركز الثالث عالمياً في إنتاج الغاز فيما لو تمكنت من رفع قدرتها الإنتاجية إلى حدها الأقصى.
وبرأيّ باكير فإن"سوريا لم توقع على القانون الدولي للبحار، وعام 2011 عندما اندلعت الثورة كان الأمر شرق المتوسط يتبلور وبالتالي هي خارج الصراع وخارج ترسيم الحدود، لتبقى المبادرة بيد روسيا، فإذا أرادت سوريا الترسيم عليها أن تتعامل مع تركيا، وقبرص ولبنان وهناك مشكلات سياسية لبنانية - سورية وتركية - سورية مع نظام الأسد، وأعتقد أن النظام قد يفضل توقيع اتفاقية مع قبرص لكن ذلك غير متاح وهو ليس أولوية الآن، ولكن أعتقد أنه عندما تتعافى البلاد من سيطرة الأسد سيكون لها دورها وحقوقها".
عبث إسرائيلي في المنطقة
ضمنت "إسرائيل" حصة من الغاز بعد أن رسمت حدودها البحرية الاقتصادية مع مصر، وسطت على حقوق الفلسطينيين، كما وقعت إسرائيل اتفاقية لتصدير الغاز إلى مصر بقيمة 19.5 مليار دولار، إضافة إلى اتفاقية أخرى مع الأردن، وهي تسعى الآن إلى تأمين طرق تصدير الغاز والاستفادة منه.
ويشدد باكير أن إسرائيل مستفيدة من الدور المصري، ويهمها أن تقوم بتصدير الغاز إلى الخارج متفادية الدور التركي، "طبعاً إن الطريقة الأنجع والأقل كلفة لنقل الغاز إلى أوروبا هي عبر تركيا ولكن بسبب الخلاف الجيوسياسي بين الطرفين في المنطقة قررت إسرائيل الانضمام إلى المعسكر الذي يضم اليونان وقبرص ومصر وفرنسا والإمارات والسعودية، وأن تأخذ خطاً آخر لنقل الغاز هو "إيست ميد"، ولكن مشكلة هذا الخط أن تكلفته عالية ويمر في المنطقة التي رسمتها تركيا مع ليبيا".