ما زلنا نتتبع الأفكار والمعلومات التي لها علاقة بالاقتباسات الغنائية، منطلقين من مقالة كتبها الأستاذ صقر أبو فخر ونشرها في "ضفة ثالثة" 6 آب 2020 بمناسبة رحيل الشاعر هارون هاشم رشيد، إذ وقع التباس صغير حول نسبة قصيدة "سنرجع يوماً" له، أم للأخوين الرحباني.
لا يكاد يختلف اثنان في أن أغنية "يابو ردين يابو ردانا" هي للمطرب الفراتي دياب مشهور (المولود في بلدة موحسن 1946)، وقد غناها في إحدى حلقات مسلسل صح النوم 1972 وهي، كما جاء في هويتها، من ألحان عبد الفتاح سكر. ولكنها، في الحقيقة، مأخوذة عن المطرب العراقي فؤاد سالم (1945- 2013)، وقد غناها من بعده سعد الحلي، ثم دياب مشهور، وكل واحد منهم غناها بطريقته، وهناك مصادر تقول إنها لمسعودة العمارتلي، المرأة التي غيرت جنسها وصار اسمها (مسعود العمارتلي) شعراً ولحناً، وسجلتها على أسطوانة في لبنان سنة 1937.
يمكننا هنا أن نعرج على ظاهرة تستحق الذكر، وهي فضل الكوميديا الاجتماعية السورية على بعض المطربين، وبالأخص أعمال الثلاثي (دريد لحام- نهاد قلعي- خلدون المالح) التلفزيونية، التي نالت شعبية استثنائية في تلك الأيام حتى إن الشوارع السورية كانت تُقفر في أوقات عرض حلقاتها.. ومع أن عبدو موسى من مشاهير الغناء في الأردن، إلا أن ظهوره في مسلسل "صح النوم" وهو يغني برفقة الربابة (نزلِن على البستان يا عنيّد يا يابا) بمرافقة مجموعة كوميدية مثل عمر حجو ومحمد العقاد ومحمد الشماط وياسين بقوش، إضافة إلى دريد ونهاد طبعاً، قد رسخت صورة هذا المطرب في مخيلة الشعب السوري، وأصبحت الأغنية واحدة من الأغاني التي تُغنى أو تعزف على الآلات الموسيقية في كل مكان.. وقد غنتها سميرة توفيق أيضاً. وكذلك اشتهر مطربان لم يكن لهما قبل اشتراكهما في صح النوم أية شهرة، وأصبحا بعدها من المشاهير، وأعني دياب مشهور ودريد عواضة.
محبو الطرب الأصيل يعشقون أغنية "سليمى" التي غنتها زكية حمدان (1920- 1987)، في سنة 1951، وبعدها لم يبق مطرب يريد أن يستعرض مقدرته على الأداء الصعب والتطريب إلا وغناها، منهم ميادة بسيليس، وأمل عرفة، وريما خشيش، ومروان حسام الدين، وقد جاء في أحد المصادر أنها من كلمات نوفل الياس، وألحان خالد أبو النصر اليافي، ولكنني سمعت، غير مرة، أن ثلاثة شعراء اشتركوا في نظمها، أحدُهم مدحة عكاش، اجتمعوا في سهرة، وقال أحدهم سأعطيكم شطراً من مطلع قصيدة، فأكملوه، ففعلوا، ودونوا ما ارتجلوه حتى أصبحت القصيدة بصيغتها المعروفة. وهناك من يزعم أن مؤلفها هو العراقي محسن طميش، وعليه فإن الجزم بصحة نسبتها إلى واحد من هؤلاء الشعراء ليس أمراً سهلاً.
عُرف المطرب الحلبي صبري مدلل (1918- 2006) بمقدرته العالية على أداء أغاني الفلكلور الغنائي الخاص ببلاد الشام، وبالأخص الموشحات والأدوار والطقاطيق الحلبية، وله أغنية شهيرة جداً خارج هذا السياق عنوانها "حمامة حلوة"، وبالتدقيق يتضح أنها مأخوذة عن سلطانة الطرب منيرة المهدية التي تغني (يمامة حلوة ومنين أجيبها- طارت يا نينه عند صاحبها)، وصبري مدلل غَيَّرَ كلمة يمامة فجعلها حمامة، وكانت الأغنية طويلة اختصرها صبري إلى لازمة وثلاثة مقاطع، منها:
وأخدها البلبل وطار وياها
قصدُه يا نينه عارفْ لغاها
تطير وتجيني قاصدة تسليني
لأحلف بديني لأطير وياها
كان المرحوم صبري مدلل من أكثر المعجبين بالغناء المصري، ومن اقتباساته الشهيرة أغنية "حَرَّجْ علي بابا ما أروحش السينما" التي أبدع كلماتها بديع خيري وغناها سيد درويش.
(ملاحظة: بديع خيري أبدع كذلك مسرحية سيد درويش الغنائية الشهيرة "العشرة الطيبة").
والحقيقة أن المعلومة التي ذكرها الأستاذ صقر أبو فخر في مقالته المشار إليها حول اقتباس سيد درويش رائعتيه "زوروني" و"طلعت يا ما أحلى نورها" عن الملا عثمان الموصلي قد أصابنا نحن عشاقَه بغصة، ليقينهم أنه رائد التجديد والحداثة في الغناء العربي، فما حاجته للاقتباس؟ وهو رائد بالفعل، بدليل ما رواه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في مقابلة أجراها معه سمير صبري، إذ قال ما معناه إن المتزمتين في الفن كانوا يعتبرون مجرد الإصغاء لأغاني سيد درويش نوعاً من الشطط والميوعة، وقال:
- كنا نتخبى ونسكر على روحنا الباب علشان نسمع سيد درويش.
وأشار عبد الوهاب، في اللقاء ذاته، إلى أغنية حَرَّج عليّ بابا ما أروحش السينما التي يتضح من عنوانها أنها لا تلائم الأذواق التقليدية.
يتداول مؤرخو الغناء ونقادُه معلومة تحكي عن رائعة صباح فخري "أنا في سُكرين" التي أبدعها الشاعر بدر الدين حامد، على أنها من ألحان وغناء الفنان السوري سري طمبورجي (1915- 1958)، وهو من الأرمن النازحين إلى سوريا واسمه الأصلي سركيس طمبورجيان، وقد سجل بضعة أغان في إذاعة دمشق منها قصيدة "هل تذكرين؟" من شعر الأديب الراحل حسيب كيالي.
اقترنت أغنية "أنا في سكرين" عندما يؤديها صباح فخري بقصيدة "خمرة الحب اسقنيها" التي تذكر المدونات الفنية أن كلماتها من الفولكلور، وأما ألحانها فهناك خبر يقول إنها للموسيقار عدنان أبو الشامات، بينما تؤكد صفحة "مؤسس الطرب صباح فخري" - وهي مدونة ذات مصداقية جيدة - أنها من ألحان صباح فخري نفسه، وأما أغنية "أنا في سكرين" فتنفي الصفحةُ كون مذهبها (اللازمة) من ألحان سري طمبورجي، وتنسب اللحن لنعسان الحريري، وللتوضيح، إن سري طمبورجي كان قد لحنها بصيغة مغايرة لصيغة صباح فخري التي تسحر المستمعين وترقصهم.
يمكننا، أخيراً، أن نسجل ملاحظة مهمة ننهي بها هذا المبحث، وهي أن الغناء في سوريا وفي المنطقة العربية كلها يحتاج إلى تدقيق وتأصيل وتوثيق، وإن كان ثمة جهود متفرقة (في سوريا) بذلها سعد الله آغا القلعة، ومصطفى هلال، وصميم الشريف، وأحمد بوبس، إلا أن هذه الدراسات، على أهميتها، لم تصل إلى مستوى إصدار موسوعة شاملة يمكن اعتبارها مرجعاً يعطي للباحث المتعطش بغيتَه بسهولة وبساطة.