تتجه تركيا إلى جولة إعادة الانتخابات الرئاسية في 28 مايو بعد أن حصل الرئيس أردوغان على نسبة 49.5٪ من الأصوات في الجولة الأولى (وهي أقل من 50% التي كانت لازمة للحسم)، وأظهرت النتائج تقدمه على منافسه زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو من حزب الشعب الجمهوري، والذي حصل على 44.89٪ فقط من الأصوات، في حين حصل سنان أوغان على نسبة 5.2٪ من الأصوات. وبحسب العديد من المعطيات يرجح سيناريو تفوق الرئيس أردوغان على كليتشدار أوغلو في الجولة الثانية. وعلى عكس كل استطلاعات الرأي فقد حصل تحالف الجمهور الذي يتزعمه الرئيس أردوغان على الأغلبية في البرلمان بعدما حصل على 322 صوت، مقابل 213 صوت للمعارضة.
العامل الاقتصادي كان من أحد أهم العوامل والأدوات التي أثرت على نتائج الانتخابات، وفي الفترة الأخيرة شهدت تركيا ارتفاعا في نسب التضخم وصلت إلى مستويات قياسية، ووصلت الذروة في شهر أكتوبر 2022 عند حد 85.5٪، في حين سجلت معدلات التضخم 64.27٪ على أساس سنوي في ديسمبر 2022، وفي عام 2023 بدء التضخم ينخفض بشكل بطيء جدا عند مستوى 43.68٪. كما تشهد الليرة التركية انخفاضا مستمرا.
وبعد الزلزال بدأت تركيا تشهد توسعا في فجوة العجز التجاري بسبب انخفاض الواردات، والذي سبقه انخفاضا في الاستثمار المباشر للبلاد. ويرجع العديد من الخبراء انخفاض مؤشرات الاقتصاد إلى خلفية سياسة الرئيس التركي الاقتصادية (غير التقليدية) القائمة على خفض سعر الفائدة، وتوسيع حجم الاستيراد، وواردات السياحة. وعلى الرغم من تراجع معظم مؤشرات الاقتصاد التركي إلا أن ذلك لم يكن العامل الأساسي المؤثر على نتائج الانتخابات، مع أن المعارضة عولت كثيراً عليه كعامل أساسي في تراجع شعبية أردوغان والحزب الحاكم، إلا أن الحكومة وجدت مجموعة متنوعة من الطرق للحفاظ على الاقتصاد متماسكاً من الانهيار، بما في ذلك استخدام المشاريع الضخمة، والاعتماد بشكل كبير على قنوات التمويل الخارجية، واتباع سياسات وأنظمة صارمة في سوق العملات.
انعكاسات الانتخابات الرئاسية على سيناريوهات الاقتصاد التركي
تنظر المؤسسات المالية الدولية إلى أن نتائج الانتخابات الرئاسية في تركيا على أنها العامل الرئيسي في تشكيل مستقبل الاقتصاد التركي، بسبب الإجراءات الاقتصادية التي سيتبعها الرئيس القادم، لذلك نحن أمام سيناريوهين:
السيناريو الأول: انعكاسات فوز الرئيس أردوغان بالانتخابات الرئاسية على الاقتصاد
في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من تضخم مستمر كان من المفترض أن يقوم البنك المركزي التركي باتباع سياسة نقدية متشددة ومنها رفع الفائدة، إلا أن الرئيس أردوغان سلك منهجا معاكسا وعمل على خفض الفائدة، وأعلن في عدة مناسبات أنه متمسك بسياسته الاقتصادية (والتي يطلق عليها الخبراء بأنها غير تقليدية) وتقوم على تخفيض الفائدة مقابل التوسع بالاستيراد لتحقيق النمو في اقتصاد البلاد.
من الواضح أن الاقتصاد في تركيا يعاني من مشاكل في السياسة النقدية، وقد يتأثر بشكل سلبي في حال فوز الرئيس أردوغان وإصراره على سياسة نقدية تبدو غير تقليدية. وفي حال فوز كليتشدار أوغلو في الجولة الثانية لن تفيده السياسة التقليدية في تخفيض الفائدة
السياسة الاقتصادية للرئيس أردوغان وبحسب وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني العالمية أبعدت المستثمرين عن الاستثمار في تركيا، وأدت الى انخفاض مؤشر التخلف عن سداد الديون الخارجية، وإلى استمرار التضخم وانخفاض قيمة العملة، لذلك تتوقع وكالة التصنيف الائتماني "موديز" في حال فوز الرئيس أردوغان بالانتخابات أن يستمر في سياسته الاقتصادية الغير تقليدية مما سيعمق من خسائر الاقتصاد التركي.
في الحقيقة وبعد صدور نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية والتي أظهرت بشكل واضح تفوق الرئيس أردوغان وتحالفه، هبطت أسهم البنوك التركية، وانخفضت قيمة الليرة مقابل الدولار، وانخفض مؤشر بورصة إسطنبول BIST-100 بنسبة تصل إلى 6.4٪ في التعاملات مقارنة بما قبل الانتخابات.
كما أدى عدم اليقين في السياسة النقدية التركية إلى قلق المستثمرين في سندات الحكومة التركية بشأن قدرة البلاد على سدادها، وارتفعت كلفة شراء التأمين ضد مخاطر التخلف عن السداد من قبل الحكومة - المعروفة باسم مقايضة التخلف عن السداد - إلى ما يقرب من 27 ٪ وهو أعلى مستوى لها منذ نوفمبر وفقًا لبيانات من S&P Global Market Intelligence.
ونظرًا لوعد الرئيس أردوغان بالحفاظ على السياسات الاقتصادية الحالية (غير التقليدية)، قد نشهد هبوطاً أكثر في المؤشرات التي ذكرناها آنفا، لكن أعتقد أن الرئيس أردوغان سيحاول تأمين تمويل خارجي جديد للاقتصاد التركي من خلال عقود أو توسيع اتفاقيات تبادل تجاري مع دول متعددة، كما أنه من الممكن أن يعمل على تشجيع الدول على ضخ استثمارات في تركيا من خلال استغلال علاقاته ونفوذه، والمساومة على قضايا في السياسة الخارجية. وقد يعمل على التقارب أكثر مع دول الخليج العربي ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في محاولة للحصول على قروض أو استثمارات مباشرة، وتوسيع قاعدة صادرات تركيا للحفاظ على استقرار مؤشرات اقتصاد البلاد.
السيناريو الثاني: فوز كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية
في حال فوز كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية، فإنه وبحسب مؤسسات دولية مثل وكالة التصنيف الائتماني "موديز" من شأنه أن يحسن احتمالات العودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية التي إذا تم تنفيذها بشكل فعال ستكون مؤشرا إيجابيا للاقتصاد التركي على المدى الطويل. وقالت موديز مع ذلك سيكون حل الإجراءات التي تم وضعها على مدار العامين الماضيين أمرا صعبا، مضيفة أن مخاطر التقلبات في الاقتصاد والأسواق التركية كبيرة. ومن المحتمل أن تشهد تركيا تغيرات سريعة على مستوى الإدارة العليا للمؤسسات الاقتصادية الرئيسية وخاصة إدارة البنك المركزي، وسيكون استهداف التضخم هو المهمة الرئيسية للبنك المركزي من خلال وضع سياسات مشددة ورفع الفائدة، إلا أن ذلك سيؤدي بطبيعة الحال إلى دخول الاقتصاد في حالة ركود لسنوات، مما قد يؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي. ومن المحتمل بشكل كبير أن يلجأ كليتشدار أوغلو إلى جذب تدفقات الأموال الساخنة والتي من الممكن أن تخفف الضغط على الليرة، لكن هذا مفيداً فقط على المدى القصير جدا، ولن يعالج مشكلة التضخم.
واقعيا من الواضح أن الاقتصاد في تركيا يعاني من مشكلات في السياسة النقدية، وقد يتأثر بشكل سلبي في حال فوز الرئيس أردوغان وإصراره على سياسة نقدية تبدو غير تقليدية. وفي حال فوز كليتشدار أوغلو في الجولة الثانية لن تفيده السياسة التقليدية في تخفيض الفائدة لأن ذلك سيدخل اقتصاد البلاد في حالة ركود ينتج عنه تباطؤ في النمو لسنوات. وأرجح بعد فوز الرئيس أردوغان في الجولة الثانية أن يسعى إلى توسيع التجارة الخارجية وجذب الاستثمارات من خلال صفقات سياسية مع عدة دول.