تاريخياً عاش الاقتصاد العالمي فترات عصيبة متأثراً بارتفاع أسعار موارد الطاقة، وكان أولها في عام 1973 حينما أوقفت العديد من دول منظمة أوبك تصدير النفط للدول الغربية وفي مقدمتهم أميركا وهولندا، نتيجة لدعمهما العسكري لإسرائيل في حرب أكتوبر. كما شهد عام 2008 أيضاً ارتفاعاً حادًا في أسعار النفط ووصل حينذاك إلى 147 دولارا للبرميل، وذلك بسبب ارتفاع الطلب على موارد الطاقة بعد تخفيض البنك الفيدرالي الأميركي والبنوك الأوروبية لأسعار الفائدة بشكل متعاظم، مما سهل على السكان الاقتراض واكتسابهم للأموال، وبدوره ارتفع الطلب على السلع بكل أنواعها. ويعيش العالم الآن حالة من ارتفاع مؤشرات أسعار السلع والخدمات بشكل متعاظم - والذي يعرف بالتضخم - بالتزامن مع ارتفاع حاد في أسعار موارد الطاقة بكل أنواعها، والتي انعكست بشكل مباشر على ارتفاع تكاليف النقل الدولي، وتباطؤ حركة الاستيراد والتصدير، وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي.
التوترات الجيوسياسية والحروب وعدم الاستقرار الأمني والتعرض لعمليات تخريب في الدول المنتجة للنفط، على سبيل المثال الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا كانت سبباً رئيسياً في ارتفاع الأسعار
وفي إطار صياغة سيناريوهات لأسباب ارتفاع أسعار موارد الطاقة عالمياً، لا بد من طرح أبرز القواعد الأساسية المؤثرة في أسعار الطاقة، ارتفاعاً وانخفاضاً، ونذكر أهمها كالتالي:
أولاً: مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي، تُصدر مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبعض المؤسسات الاقتصادية العالمية المهمة توقعات سنوية عن معدلات النمو الاقتصادي لدول العالم، فتؤخذ التوقعات الصادرة عن تلك المؤسسات كإحدى أهم المؤشرات السنوية التي من الممكن أن تتوقع حاجة السوق الدولية لموارد الطاقة، إذ يساهم توقع ارتفاع أو انخفاض الطلب على الطاقة بدرجة عالية في تحديد أسعارها في السوق الدولية.
ثانياً: التغيرات في العرض والطلب في السوق الدولية للطاقة، ففي حالات الازدهار الاقتصادي يرتفع الطلب على موارد الطاقة وبالتالي ترتفع أسعارها، أما في حالات الركود والانكماش ينخفض الطلب وتنخفض معه أسعار الطاقة كما حصل في منتصف عام 2020، حين انخفض الطلب على النفط بعد عمليات الإغلاق الاقتصادي نتيجة جائحة كورونا، مما أدى إلى انخفاض سعر العقود الآجلة للنفط إلى ما دون الصفر لأول مرة في التاريخ.
ثالثاً: التوترات الجيوسياسية والحروب وعدم الاستقرار الأمني والتعرض لعمليات تخريب في الدول المنتجة للنفط، على سبيل المثال الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا كانت سبباً رئيسياً في ارتفاع الأسعار، وفي العام الماضي تعرضت البنية التحتية لمنشآت البترول لشركة أرامكو السعودية لعمليات تخريب، حين استهدفت بطائرات من دون طيار.
رابعاً: ظهور بدائل عن النفط والغاز والفحم الحجري التقليدي، مثل اكتشاف كميات ضخمة من النفط والغاز الصخري في كل من الولايات المتحدة الأميركية، وكندا. فمنذ عام 2008 كثفت الدولتان من عمليات الإنتاج، وطرحتا إنتاجهما في السوق الدولية من دون تنسيق مع الدول المنتجة الأخرى، مما سبب خللا في معادلة العرض والطلب بزيادة المعروض.
خامساً: التوقف المفاجئ لعمليات الإنتاج في الدول الصناعية الكبرى، على سبيل المثال، توقف المصانع عن العمل لسبب طارئ في دولة مثل الصين، قد يخفض الطلب على الطاقة في السوق الدولية.
الحرب الروسية وانعكاسها على أسعار موارد الطاقة الدولية
شنت روسيا غزوًا عسكريًا على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وارتفعت على أثرها أسعار النفط، والتي كانت بالفعل في حالة ارتفاع نتيجة لسياسة مجموعة أوبك بلاس التي تضم دول منظمة أوبك وروسيا، حيث اتفقت المجموعة على تحقيق توازن في المعروض والطلب الدولي، وهو ما تحقق بعد فترة من توقيع الاتفاق.
في الوقت الراهن، وبالتحديد خلال الحرب الروسية على أوكرانيا لم تفرض الدول الأوروبية عقوبات على صادرات النفط الروسية، كذلك الأمر روسيا لم تعلق صادراتها من النفط والغاز إلى الدول الأوروبية والعالم، ومازالت تصدر الكمية المتفق عليها في العقود الآجلة والفورية المبرمة مع الشركات العالمية. بتقدير شخصي يمكن القول إن ارتفاع الأسعار ناتج عن مجموعة من الأسباب التالية: السبب الأول، الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، إذ خلقت الحرب حالة من القلق والتوتر العالمي والخوف من توقف تدفق موارد الطاقة الروسية، والتي تشكل جزءًا كبيرًا من حجم الاستهلاك العالمي، وفي حال حدوث أي توقف أو تقلص في تلك الموارد سينتج عن ذلك نقصاً واسعاً في المعروض بالسوق الدولية. السبب الثاني، التزام مجموعة دول أوبك وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية باتفاق أوبك بلاس مع روسيا، حيث يضمن الاتفاق التزام الأطراف بكمية معينة من الإنتاج اليومي لخلق التوازن في السوق الدولية، فضلاً عن رفض السعودية لطلب أميركي في زيادة الإنتاج وضخه في الأسواق. السبب الثالث والأهم، عدم وجود بديل حقيقي في الفترة الحالية يضمن تغطية النقص المتوقع الذي يمكن أن تحدثه روسيا إذا ما توقفت عن ضخ الغاز والنفط إلى السوق الدولية. لأن دول الخليج لا سيما السعودية والإمارات رفضوا زيادة الإنتاج والتزموا باتفاق مجموعة أوبك بلاس مع روسيا. السبب الرابع، انخفاض المخزونات الاحتياطية الاستراتيجية لدى دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية.
انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 100 دولار: يعتمد حصول هذا السيناريو على قبول السعودية ودول أوبك الأخرى طلب الولايات المتحدة الأميركية بزيادة الإنتاج، أو التعهد بضمان زيادة الإنتاج في حال قلصت روسيا إنتاجها
انطلاقاً من المعطيات السابقة يمكن وضع سيناريوهات لأسعار موارد الطاقة المستقبلية على الشكل التالي:
السيناريو الأول، ارتفاع الأسعار بين 200 - 300 دولار: وهو سيناريو غير متوقع، وبعيد التحقق، لأن ارتفاع الأسعار لهذا المعدل مرتبط بقيام روسيا بوقف وتقييد وصول إنتاجها من النفط والغاز إلى السوق الدولية، مما يحدث نقصا شديدا، وارتفاعا حادا في الطلب.
السيناريو الثاني، بقاء الأسعار بين 100 - 150 دولارا: يستند هذا السيناريو إلى التزام روسيا بعقود التصدير التي أبرمتها مع الدول والشركات العالمية المختلفة. ومازالت روسيا إلى الآن ملتزمة بتصديرها النفط والغاز إلى السوق الأوروبية. أيضاً من غير المحتمل أن توقف موسكو صادراتها من موارد الطاقة لأنها أصبحت المصدر الأساسي للموارد المالية، لا سيما بعد تطبيق العقوبات الغربية عليها، والتي شملت جميع قطاعات الدولة الاقتصادية ما عدا قطاع الطاقة. وسيعوض السعر المرتفع لموارد الطاقة جزءاً من الموارد المالية التي تخسرها روسيا من جراء العقوبات.
السيناريو الثالث انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 100 دولار: يعتمد حصول هذا السيناريو على قبول السعودية ودول أوبك الأخرى طلب الولايات المتحدة الأميركية بزيادة الإنتاج، أو التعهد بضمان زيادة الإنتاج في حال قلصت روسيا إنتاجها.
بالنتيجة ترتبط أسعار موارد الطاقة في الفترة القادمة بعاملين أساسيين، الأول، ضمان تدفق إمدادات النفط والغاز الروسي إلى السوق الدولية، بالتزامن مع عدم فرض عقوبات دولية على قطاع الطاقة الروسي. والثاني، الحفاظ على التوازن بين العرض والطلب في السوق الدولية.