ألا تأخذ النهايةُ سمةَ الخصوبة إذا تصوّرنا أن آخِر أي شيء هو أوّلٌ لشيء غيره؟ حيث تأخذ ثنائية الموت/ الولادة حركيّتها من إشارات الطبيعة الأولى في تعاقب الليل والنهار ودورة الشمس ومنازل القمر... وقد تأتي هذه الخصوبة تراجيدية كما في موت الأم ونجاة الجنين، لكن بهرج الانبعاث لا يستر عُريّ الانمحاء، إذ إن هناك شعوراً بالقطع تثيره (النهاية -the end )، ويحيل بدوره إلى إحساس بعدم الرضا، الأمر الذي ربما كان دافعاً لإسقاط هذه الكلمة من قافية الأفلام السينمائية.
النهاية في اللغة: غاية الشيء وآخره (والنهاية: العقل)، وغاية الحي الموت، وقد ترى بعض العقائد أن الإنسان يذهب بموته إلى بداية أخرى. ومن القصص الطريفة: "رجلان تنازعا في أرض، فقالت لبِنة من الجدار: إني كنت ملكاً من الملوك، ملكت الدنيا ألف سنة، ثم صرت رميماً ألف سنة، ثم أخذني خزّاف وعملني إناء، فاستُعمِلت ألف سنة، حتى تكسّرت وصرت تراباً، فأخذني وعملني لبِناً وأنا في هذا الجدار كذا وكذا سنة، فلم تتنازعان؟".
وتكثر الأقوال بعظة الموت كقول أرسطو حين مات الإسكندر الأكبر: "أيها الملك، لقد حرّكتنا بسكونك" فقال بعض الحكماء من حوله: "لقد كان الملك أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس"؛ لعل أبا العتاهية أخذ من هذا قوله:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ
وأنت اليوم أوعظ منك حّياً
أما من منظور الديانات السماوية فالنهاية معنىً مجازي للقيامة أو ما قبلها، ولها تنبؤات تراجيدية مفصّلة تتقاطع مع بعضها إلى حد كبير في الأديان الثلاث، ومنها اتخذ الروائي الأميركي اللاتيني ماريو بارغاس يوسا أرضية وفضاء لروايته (حرب نهاية العالم). تقوم الرواية على احتراب الثنائيات في ذات المجتمع والثقافة والمعتقد: الديني والعقلي، الجمود والحداثة، الظلامية والتنوير، العلم والجهل، الملكية والجمهورية، الفضيلة والرذيلة، الأخيار والأشرار، أحلام البسطاء وأحلام قادة الجيوش، السنتيميتر والياردة...
وتفصّل الرواية في ذلك حتى تتجاوز السبعمائة صفحة، في بنية متماسكة محورها زاهد يبشّر بقرب حرب نهاية العالم، وتكون بين المسيح الدجّال المتمثل في الجمهورية المنقلبة على مَلكيّة البرازيل من جهة وبين الأتباع المخلصين المؤيَّدين بجيش أحد القديسين الذي سينبعث من قاع البحر من جهة ثانية.
صادف قراءتي للرواية وجودي في منطقة جنوبي دمشق المحاصرة بين النظام السوري من جهة و"داعش" من جهة ثانية و"حزب الله" اللبناني من جهة ثالثة، وكان لقراءتها أثر كبير لما تتشابه فيه مع واقعنا المعاش آنذاك والانسياق لنظريات حرب آخر الزمان التي ربما تكون توأم كل حرب؛ الناس يحتاجون إلى حافز مغرٍ لكي يموتوا مقتنعين: مقبلين لا مدبرين، وهذه عوامل حاسمة في التجييش للحروب ولتحمل ويلاتها.
يحافظ موضوع النهاية على جاذبيته وتجدد ألقه مهما خِيض فيه ونُظّر له، لأنها تجربة متخيّلة أو مفهوم متراكم من تصوّرنا لنهايات مكرورة عبر الزمن
وإذ يتفق الشاعر الأميركي روبرت فروست مع بارغاس يوسا على نهاية وشيكة للعالم، إلا أنه يرى أسباباً مختلفة لهذه النهاية، فهو يعزوها، في قصيدته (النار والثلج)، إلى أحد سببين: الرغبة أو الكراهية. ربط النقاد بين قصيدة فروست والقسم الأول من الكوميديا الإلهية –وهو الجحيم- للشاعر الإيطالي دانتي، ورأوا فيها تكثيفاً لرؤيته حول نهاية العالم، بينما صرّح أحد علماء الفلك بأنه من أوحي له بفكرة القصيدة التي يقول فروست فيها:
يقول البعض إن العالم سينتهي بالنار
ويقول آخرون سينتهي بالجليد
ومما تذوقت في حياتي من شهوات
فإنني أتضامن مع أولئك الذين يؤيدون النار
ولكن، إن كان على العالم أن يهلك مرتين
فإن لدي من المقت ما يكفي
لأعرف أن الإبادة بالجليد
عظيمة أيضاً
وسوف تفي بالغرض
من زاوية مغايرة يعطي البعض للنهاية معنى التحول، بمعنى تحول النسق التاريخي، إذ يرى عالم الاجتماع إيمانويل فالرشتاين في كتابه (نهاية العالم كما نعرفه): "أن الأنساق التاريخية، شأنها شأن الأنساق كافة، لها أعمار محدودة. إن لها فترة بداية، تليها فترة تطور طويلة، ثم تصير أخيراً إلى زوال بعد أن تبتعد عن نقطة التوازن وتصل إلى حدود التفرع والهلاك... وأن النسق العالمي المعاصر، بوصفه نسقاً تاريخياً، قد دخل أزمة الاحتضار، وأنه من غير المحتمل أن يبقى قائماً بعد خمسين سنة من الآن".
وبعنوان قريب جداً صدرت مجموعة نصوص شعرية (نهاية العالم كما نألفه) للشاعر إبراهيم المصري عن دار المتوسط عام 2021، بالاختلاف البادي بين فِعلَي نعرفه عند فالرشتاين ونألفه عند المصري، يما يحمله الأول من علم وإدراك والثاني من تعوّد واستئناس، إلا أنه على النقيض تماماً يدعو فالرشتاين إلى اللايقين والشك كمنهج في طالعة كتابه "الاعتقاد بالأمور اليقينية، وهو من المسلمات الجوهرية للحداثة، أمر خادع ومحبط"، بينما ينساق المصري نحو العلم الديكارتي-النيوتني القائم على حتمية اليقين، لكنه يقين بقدرة العلم على تغيير الواقع الحالي (وربما السيطرة عليه) إلى واقع ليس أفضل مما هو عليه الآن.
ستحتل التكنولوجيا، في رأي المصري، الأدوار البشرية في العلاقات الأكثر حميمية كعلاقة الأمومة مثلاً:
"الساعةُ التي حول معصمك، وتحصي دقات قلبك، وتعطيك جداولَ النبضِ مصنّفة بنضوج غاياتك... وتحسب كم عدد الخطوات التي مشيتها اليوم... وتختار لك أن تأكل هذا الطعام وأن تتجنب ذاك، فلا تنهار مناعتك أمام فيروس ماكر. الساعة التي هي أمك حين تمسك معصمك وقد أضناها السهر، لتطمئن على جريان دمك نظيفاً، مما تأتي به جداول غاياتك".
عبر هذا المرور بين اللفظ الشعري والمسمّى المخبري، وبين الأسطوري والديني والعلمي يعقد الشاعر صلحاً بين العلم والشعر (على رأي الروائي إبراهيم فرغلي) ويرسم نهاية لعالم يألفه إلى عالم أكثر غربة وغرابة لعل فترة العزل بسبب فيروس كورونا هي من أوحت إليه بوحشته.
يحافظ موضوع النهاية على جاذبيته وتجدد ألقه مهما خِيض فيه ونُظّر له، لأنها تجربة متخيّلة أو مفهوم متراكم من تصوّرنا لنهايات مكرورة عبر الزمن، فلم تشِ اللبِنة التي كانت ملِكاً إلا بالتغير الشكلي بين نهاية وبداية، لكنها لم تتناول عملية التحوّل نفسها، وهل يستطيع أي أحد منتهٍ أن يخبرنا بها؟ّ! هذا يجعل كتابة سيناريو النهاية وما بعدها مغرياً في الحروب والقصائد والنظريات، وما كل ذلك إلا من عوامل التحويل والتغيير بين بداية ونهاية إلى ما لا نهاية...