أثار فيلم "سيدة الجنّة" (The Lady of Heaven) الذي يتناول حياة السيدة فاطمة ابنة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، موجة غضب واسعة داخل أوساط المسلمين في بريطانيا، ما لبثت أن تحولت إلى احتجاجات ومظاهرات في مناطق عدة، مطالبة بوقف عرض الفيلم في دور السينما البريطانية.
الفيلم (البريطاني- إخراج إيلي كينغ) الذي يعود تاريخ إصداره الأولي إلى منتصف كانون الثاني من العام الفائت، بدأ عرضه في دور السينما البريطانية في الثالث من حزيران الجاري، وأثيرت حوله -قبل بدء العرض وبعده- كثيرٌ من التساؤلات المتعلقة بمضمونه وبتوقيته، وبالأهداف التي يريد الوصول إليها.
فالمعارضون رأوا أن الفيلم يسيء إلى الإسلام بشكل واضح ومباشر، ويحاول تشويه صورته. كما يتعرض للشخصيات الإسلامية المقدسة بشكل غير لائق، ويسيء إليها، ومن شأنه أن يثير الكراهية والطائفية بين الطوائف الإسلامية، كما أنه تجاوز التقاليد الإسلامية المتعارف عليها في تصويره وجه الرسول الكريم وعدد من الصحابة والمقربين، وسماع أصواتهم، ويحاول إظهار النبي على أنه يفضّل أفراد عائلته على الآخرين. ويرى المعارضون أيضاً أن الفيلم يثير العنصرية من خلال تصوير أصحاب البشرة السمراء بشكل سلبي (غالبية الممثلين فيه من الإنجليز ذوي الأصول الأفريقية).
أما المؤيدون، فيعتقدون أن الفيلم هو عبارة عن عمل فنّي وثقافي من حق صنّاعه أن يطرحوا من خلاله رؤيتهم الخاصة "بحرية" ومن دون قمعهم وممارسة أسلوب الإلغاء عليهم.
قصة الفيلم الإشكالي
تدور أحداث الفيلم ضمن زمنين متباعدين تاريخياً ويفصل بينهما نحو 1400 عام، ويبدأ في زمننا هذا مع الطفل العراقي "ليث" الذي تُقتل والدته "فاطمة" أمام عينيه على يد تنظيم (داعش)، ليرعاه عنصر من عناصر "الحشد الشعبي" ويأخذه معه إلى منزل جدته التي يعيش معها في العاصمة بغداد بعد أن فقد هو الآخر أبويه في "تفجير إرهابي".
ولدى سؤال الجدة الطفل عن تفاصيل حياته، يخبرها عن أمه "فاطمة" التي أعدمها التنظيم. وهنا تبدأ الجدة تروي له قصة السيدة فاطمة الزهراء، في محاولة لربط الماضي بالحاضر، ولكن بحسب الرواية "الشيعية" ووفق نظرة المتشددين من أبناء الطائفة وتعاطيهم السلبي مع الشخصيات الإسلامية المعاصرة وصحابة النبي وأزواجه.
في الفيلم، يظهر وجه النبي وعلي بن أبي طالب ووجوه بقية الصحابة، ولكن عملياً لم يؤدّ أي ممثل دور شخصية من تلك الشخصيات، وإنما تم تركيب شخصياتهم عبر تقنيات سينمائية حديثة. إلا أن ما يلفت الانتباه هو أن وجه فاطمة يظهر على شكل نور بدون ملامح.
وتحيط بـ فاطمة هالة من النور ويلفها الوقار والسكينة، وهي ترتدي ثوباً أبيض طوال الفيلم، وتتنقل بين الأماكن وهي داخل هودج على ظهر ناقة تتهادى بخطى هادئة. وتخوض فاطمة صراعاً مع الصحابة –وفق منظور غلاة "الشيعة"- لتدور أحداث الفيلم حول معاناتها معهم، ومظلوميتها، وتعرّضها للإساءة والأذى الجسدي على يدهم.
تظهر في الفيلم مشاهد قديمة لكل من مكة والمدينة لم يسبق أن ظهر مثلها في عمل سينمائي، وتضفي الإضاءة على تلك المشاهد أجواء روحانية على الأماكن وعلى حركة الممثلين.
"ياسر الحبيب".. كاتب الفيلم ومموله!
بمجرد معرفتنا لمؤلف قصة الفيلم، ستتبيّن لنا بوضوح أسباب مقاطعته والدعوة لمنع عرضه. فكاتب القصة هو المعمّم "الشيعي" الشهير بخطاباته الاستفزازية والتحريضية والمثيرة للطائفية، وبشتائمه للصحابة والخلفاء الثلاثة الأوائل، ياسر الحبيب، الكويتي الأصل والذي جردته الكويت من جنسيته، والمقيم منذ عام 2004 في لندن.
وتم تمويل الفيلم الذي أدى جميع أدوار شخصياته ممثلون إنجليز، من خلال تبرّعات أشرفت على جمعها قناة "فدك" التابعة لـ "هيئة خدام المهدي" التي أسسها ياسر الحبيب نفسه. وقد استمرت حملة التبرعات خلال الأعوام بين 2016 و2020.
وبعد الانتهاء من صناعة الفيلم، ألقى "الحبيب" خطاباً أطلق عليه "خطاب النصر"، قال فيه إن كلفته "بلغت 15 مليون دولار، بأحدث التقنيات والمواصفات السينمائية الهوليودية".
وأضاف أنها "المرة الأولى في التاريخ التي تعبر فيها قضية الزهراء طاقاتنا المحلية الضيقة إلى النطاق العالمي. قصتها، ظلامتها، عذاباتها...".
ومن بين العبارات التي قالها أيضاً: "سيكتشفون محمداً آخر غير الذي سمعوا عنه أو أُفهموا أنه هو، سيكتشفون الزهراء، سيكتشفون أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب)، ودور هذا الفيلم هو الفرز ما بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيف".
وبحسب الموقع الأميركي المتخصص بالأفلام (Movie Insider) يحتل هذا الفيلم المرتبة الأولى كأكثر فيلم تاريخي ودرامي منتشر خلال عام 2021. وقبل أن يأخذ تسميته الأخيرة، كان اسمه في البداية "يوم العذاب" ( The day of torture).
وقف عرض الفيلم وعزل مسؤول حكومي مسلم
بالعودة إلى الاحتجاجات الغاضبة التي نفذها مئات المسلمين، والتي تزامنت أيضاً مع توقيع أكثر من 120 ألف شخص على عريضة تطالب بوقف عرض الفيلم في دور السينما البريطانية؛ أوقفت شركة "سيني وورلد" (Cine world) لدور السينما عرض الفيلم من أجل ما سمّته "ضمان سلامة" موظفيها وزائريها، في حين استمرت سلسلة شبكة (Vue) السينمائية المنافسة لها، بتقديم عروضها في العاصمة لندن وجنوب شرقي بريطانيا.
كما أدت الأحداث التي تلت عرض الفيلم إلى عزل المسؤول الحكومي المسلم "قاري عاصم" من منصبه (يعمل مستشاراً لحكومة المملكة المتحدة) على خلفية اتهامه بتشجيع مظاهرات ضد "سيدة الجنة". وكان عاصم وهو إمام مسجد أيضاً ومحامٍ في منطقة "ليدز" شمالي إنكلترا، كتب تعليقاً في فيس بوك قال فيه إن الفيلم "يؤذي مشاعر المسلمين"، وحدّد مكاناً للتظاهر في ليدز في الليلة نفسها.
ولم يقتصر منع العرض على بريطانيا فحسب، بل شمل دولاً عربية وإسلامية من بينها على سبيل المثال دولة المغرب التي صدر عن دائرة السينما فيها بيان في الأسبوع الماضي، أكدت فيه أن "فيلم سيدة الجنة لن يحصل على ترخيص بالعرض في البلاد"، بوصفه يمثل "تزويراً واضحاً لحقائق التاريخ الإسلامي".
ما الهدف؟
معظم وسائل الإعلام، الغربية منها والعربية، صدّرت للمتابعين فكرة تفيد بأن الغضب الذي تفجّر لدى كثير من مسلمي بريطانيا ضد الفيلم، كان بسبب تجسيد الصحابة وإظهار وجوههم بالإضافة إلى تجسيد السيدة فاطمة أيضاً بالرغم من عدم ظهور ملامح لوجهها. إلا أن ذلك يبقى غير مقنع إذا ما نظرنا إلى مسلسلات عربية جسدت العديد من الصحابة، مثال ذلك مسلسلا "عمر" و"الحسن والحسين" اللذان قوبلا بحفاوة وترحاب كبيرين، ولم يثر غضب الجماهير كما يحدث الآن.
إلا ان السبب الرئيس الذي ساهم في إشعال ثورة الغضب، يرجّح أنه يتمثل بالجانب المرتبط بالأحداث التاريخية في قصة الفيلم، ومدى مصداقيتها، وبربط القديم بالحديث بصورة ظالمة ومجحفة حين أقحم السياسة في تفسير السيرة النبوية من باب العنف، وأظهر أن سبب عنف تنظيمات متشددة كـ (داعش) مثلاً هو الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق والثاني عمر بن الخطاب. وبهذا يزيد الفيلم الوضع تعقيداً؛ كونه تجاوز فكرة طرح وجهة نظر تاريخية خاصة، إلى ربط العنف و(الإرهاب) بفئة معينة، وخاصة في هذا التوقيت الحساس الذي له القدرة على تكريس حالة الصراع الطائفي والمذهبي.