لقد مضت فترة طويلة لإثارة نقاش بشأن السياسة الأميركية في سوريا لدرجة الاعتقاد بأن الصراع السوري لم يعد يحظى بأهمية تُذكر في واشنطن. لا أتحدّث هنا عن تراجع الاهتمام الأميركي بالكامل في الصراع لأن الولايات المتحدة لديها وجود عسكري في شمال شرقي سوريا وإن بدا متواضعاً كما لديها هناك حليف رئيسي هناك هو "وحدات حماية الشعب" ولم تُظهر أي استعداد للتخلي عنه، وإنما أتحدث عن الموقف من النظام ورئيسه بشار الأسد. حقيقة أن واشنطن فقدت منذ سنوات قدرتها على التأثير في ديناميكيات الصراع خصوصاً بعد التدخل العسكري الروسي منتصف العقد الماضي، ولم تعد قادرة أو راغبة في ممارسة نفوذها على حلفائها في المنطقة العربية للحد من اندفاعتهم نحو الأسد لإخراجه من عزلته تخلق انطباعاً متناقضاً تماماً مع ما تُظهره إدارة الرئيس جو بايدن. كما أن ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية مؤخراً عن تعطيل البيت الأبيض ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيخ بين كاردين تقديم مشروع قانون "مناهضة التطبيع مع الأسد" ضمن حزمة تشريعات عاجلة مررها الكونغرس، يُعزز هذا الانطباع.
العقوبات لم تعد تعمل كرادع قوي لإبقاء الأسد في عزلة دولية ليس لأنها لا تستطيع فعل ذلك، بل لأن واشنطن لم تعد تُظهر اهتماماً بإبقاء الأسد معزولاً وأصبحت تنظر إلى فوائد إعادة تأهيل الأسد في المنظومة الإقليمية على أنها تفوق مخاطرها.
مع ذلك، لا ينبغي لما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" أن يُشعرنا بالحيرة لأن السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة مع الأسد منذ فترة طويلة هي واضحة على عكس ما نعتقد وهي ببساطة لم تعد تتعامل معه كعقبة ينبغي أن تُزال بأي ثمن. ومع أن الإدارة الأميركية الحالية كانت أكثر تورطاً في هذه السياسة مقارنة بأسلافها لأنها تجاهلت استخدام نفوذها لمنع دول عربية من إعادة علاقاتها بالنظام السوري في فترة تولي جو بايدن السلطة، إلا أن ما يقوم به هو امتداد في الواقع لنهج الإدارات السابقة في التعامل مع الصراع بدءاً من باراك أوباما. لقد مهّد أوباما لهذا النهج في عام 2013 عندما أبرم صفقة مع روسيا لنزع السلاح الكيميائي للنظام مقابل تجنب توجيه ضربة أميركية له بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية في العاصمة دمشق. كما تبلور هذا النهج بشكل أوضح منذ أن قررت الولايات المتحدة بعد عام تحويل سياستها من الإطاحة بالأسد إلى التركيز على مكافحة الإرهاب وتعزيز علاقتها مع "وحدات حماية الشعب". وهذا التحول استند إلى اعتقاد أوباما حينها بأن التدخل العسكري الروسي والإيراني لدعم الأسد يتقاطع مع المصالح الأميركية لجهة أنه حد من مخاطر تحول سوريا إلى ملاذ للإرهاب العالمي ولجهة أنه ساعد واشنطن في تقليص انخراطها في الصراع للتركيز على دعم مشروع الحكم الذاتي "لوحدات حماية الشعب".
ومع أن العقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على النظام منذ سنوات، كانت مُصممة بشكل رئيسي كوسيلة ضغط على الأسد لدفعه إلى القبول بحل سياسي للصراع، إلا أن هذه العقوبات لم تعد تعمل كرادع قوي لإبقاء الأسد في عزلة دولية ليس لأنها لا تستطيع فعل ذلك، بل لأن واشنطن لم تعد تُظهر اهتماماً بإبقاء الأسد معزولاً وأصبحت تنظر إلى فوائد إعادة تأهيل الأسد في المنظومة الإقليمية على أنها تفوق مخاطرها. وتبرز مجموعة من العوامل، التي ساهمت في تشكيل هذه القناعة الأميركية تجاه مُعضلة الأسد والتي ترتبط بالأهداف الأميركية بعيدة المدى في سوريا وبالتوجه الأميركي لتقليص الانخراط في الشرق الأوسط عموماً. في الوقت الذي تبدو في الولايات المتحدة عاجزة وغير راغبة في الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا لفترة طويلة، فإن مساهمتها السياسية غير المباشرة في تخفيف عزلة الأسد تخلق هامشاً لها للتفاوض مع دمشق على صفقة تُتيح لها إمكانية شن هجمات داخل الأراضي السورية في المستقبل لمواجهة مخاطر عودة تنظيم داعش بعد انسحابها من سوريا.
علاوة على ذلك، تتركز أولويات واشنطن في الوقت الراهن على الحد من آثار انسحابها العسكري المحتمل من سوريا على حليفتها "وحدات حماية الشعب" ولقطع الطريق على تركيا للاستفادة من فراغ الانسحاب الأميركي لتدمير الإدارة الذاتية. والطريقة الأفضل لتحقيق هذا الهدف من منظور السياسة الأميركية هو الدفع باتجاه إبرام تفاهم بين "وحدات حماية الشعب" والنظام في المستقبل. في غضون ذلك، تعتقد إدارة بايدن أن إعادة تأهيل نظام الأسد في محيطه الإقليمي تخلق مُحفزا له للحد من اعتماده على إيران والعمل على تقليص حضورها في سوريا. وهذا الدافع ينسجم أيضاً مع أهداف الدول العربية التي تعمل على تعزيز انفتاحها على دمشق. كما تعزز هذا الدافع في ضوء الحاجة الأميركية إلى إبقاء النظام السوري على الهامش في الصراع الإسرائيلي الإيراني بعد حرب السابع من أكتوبر.
مع ذلك، فإن النهج الأميركي في التعاطي مع مُعضلة الأسد تنطوي على مخاطر تفوق الفوائد المتصورة له. إن إعادة الاستقرار إلى سوريا والحد من مخاطر تحولها إلى دولة مُهددة للاستقرار الإقليمي على المدى البعيد لا يُمكن أن تتحقق من دون معالجة الأسباب الجوهرية للصراع والتي تتمثل بالحاجة إلى إحداث تحول سياسي جذري يُقنع اللاجئين السوريين في دول الجوار بالعودة إلى بلدهم ويُشجع جماعات المعارضة المسلحة على ترك سلاحهم والاندماج في المنظومة الأمنية والعسكرية للدولة. كما أن الاعتقاد بأن النظام السوري لديه الرغبة أو القدرة على تقويض الوجود الإيراني في سوريا، يبدو غير واقعي تماماً ولا ينسجم مع النفوذ الهائل الذي استطاعت طهران بناءه في سوريا خلال سنوات الحرب. علاوة على ذلك، فإن التسامح مع الجرائم الكبيرة التي ارتكبها نظام الأسد خلال سنوات الصراع، سيُكرس سابقة خطيرة ويُعطي رسالة إلى ديكتاتوريين آخرين في هذا العالم أنه بمقدورهم الإفلات من العقاب حتى لو ارتكبوا مذابح بحق شعوبهم بمُجرد أن يُقدموا أنفسهم للعالم على أنهم ضمانة لمنع حصول الأسوأ. قد لا تبدو الولايات المتحدة قادرة اليوم على تشكيل سياسة أكثر قدرة على التأثير على الأسد وحلفائه، لكنّ النظام لن يكون قادراً على التعافي من آثار الصراع وإعادة حكم سوريا كما كان قبل فترة الحرب، إذا تمسك الغرب بنهج العقوبات على الأقل واستخدام واشنطن ما تملك من نفوذ على دول المنطقة لإبقائه منبوذاً.