بينما تتسابق البنوك المركزية لترويض التضخم، من خلال رفع أسعار الفائدة وتشديد السياسة النقدية بأسرع وتيرة في أربعة عقود على الأقل، وهو ما يُترجم بهبوط حاد في سوق الإسكان، تنخفض الأسعار في تسع دول من أصل 18 دولة مزدهرة عقارياً، تراقبها شركة استشارات أكسفورد إيكونوميكس الرائدة في مجال مراقبة ودراسة أسواق العقارات.
وبحسب الشركة، انخفضت الأسعار في كندا والسويد بأكثر من 8٪ منذ شباط/ فبراير، وفي نيوزيلندا تراجعت بنسبة تزيد على 12٪ منذ ذروتها العام الماضي، وبدأت الأسعار بالانخفاض في أميركا وبريطانيا، كما أنّ العديد من البلدان تسير في الاتجاه نفسه.
تراجعت مبيعات المنازل في أميركا بمقدار الخمس في آب/ أغسطس، مقارنة بالعام السابق، وفقاً للرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين، في نيوزيلندا كانت المبيعات الفصلية في أضعف مستوياتها منذ عام 2010، في الأشهر الثلاثة حتى حزيران/ يونيو انخفضت أسعار أسهم شركات البناء البريطانية الكبيرة مثل "Barratt و Taylor Wimpey"، إلى النصف هذا العام، وانخفضت أسهم شركات الإسكان الأميركية في أميركا لأكثر من 30٪.
يمثل هذا الوضع نهاية فترة ازدهار طويلة وهي طفرة اعتبرها كثير من مالكي المنازل أمراً مفروغاً منه، أدّت معدلات الرهن العقاري المتدنية والعرض المحدود إلى ارتفاع مطرد في أسعار المساكن في الاقتصادات المتقدمة في العقد الذي تلا الأزمة المالية العالمية في 2007-2009.
على سبيل المثال ارتفعت الأسعار في أميركا بنسبة 60٪ تقريباً من أدنى مستوياتها في عام 2012 حتى نهاية عام 2019. ثم جاء وباء كورونا الذي ارتفعت خلاله الأسعار بشدة في أميركا وكندا وهولندا بأكثر من 30٪، منذ عام 2020 أدت عمليات الإغلاق والتحول إلى العمل عن بُعد إلى زيادة الطلب على العقارات في الضواحي مع الحدائق أو المكاتب، خففت الحكومات التي تشعر بالقلق من أزمة الإسكان مع انتشار كورونا، شروط القروض العقارية مؤقتاً أو أزالتها، مما يسهل عملية الشراء.
لكن ارتفاع أسعار الفائدة أعاد الآن معدلات الرهن العقاري إلى مستويات لم نشهدها منذ عقود، قبل عام كان الرهن العقاري الذي معدل فائدته ثابت لمدة 30 عاماً، في أميركا أقل من 3٪، اليوم تجاوز 7% مع رفع الفيدرالي الأميركي للفائدة الأعلى مستوى منذ الأزمة المالية في 2008.
في نيوزيلندا تجاوزت معدلات الرهن العقاري 7٪ لأول مرة منذ ثماني سنوات، في بريطانيا تجاوز متوسط القرض ذي السعر الثابت لمدة خمس سنوات الآن 6٪ لأول مرة في اثنتي عشرة سنة.
هذا سيجعل الوضع أكثر صعوبة للمشترين المحتملين، وسيزيد من التضييق على أصحاب المنازل الحاليين لخفض الأسعار، إنه تغيير من المرجح أن يكون له عواقب سياسية واجتماعية غير مريحة لسنوات عديدة قادمة.
يتحدد مستوى العرض والطلب في سوق العقارات من خلال ثلاثة عوامل رئيسة:
- حساسية أسعار العقارات للسياسة النقدية حيث نمت الأسعار بشكل كبير وفقاً لحركة التوسع الائتماني والتيسير النقدي خلال فترة وباء كورونا، وهو ما دفع الأسعار إلى الارتفاع بشكل كبير ودفع إلى تشكيل فقاعة سعرية، انفجرت بشكل مباشر مع بدء تشديد السياسة النقدية من قبل البنوك المركزية الكبرى العالمية.
- معدلات الرهن العقاري أو مستويات فائدة الاقتراض على العروض السكنية، فكلما ارتفع الدين العقاري الأسري كحصة من الدخل، كان الملاك أكثر عرضة لمدفوعات الرهن العقاري الأعلى وحالات التخلف عن السداد.
سيجد محافظو البنوك المركزية العزاء في حقيقة أن ديون الأسر بالنسبة للدخل أقل مما كانت عليه عشية الأزمة المالية العالمية في بلدان مثل أميركا وبريطانيا وإسبانيا. ومع ذلك تواجه بعض البلدان جبلًا من الديون، وهذا يجعلها حساسة حتى للزيادات الطفيفة في معدلات الرهن العقاري.
فعلى سبيل المثال الأسر في أستراليا وكندا والسويد، التي هربت من وطأة الأزمة المالية الكاملة عام 2008، حصلت على قروض مذهلة في السنوات التي تلت ذلك، مما أدى إلى تحذيرات من الجهات الرقابية المالية. وكما قال ستيفان إنجفيس محافظ البنك المركزي السويدي: "الأمر أشبه بالجلوس على قمة بركان".
- السرعة التي تنتقل بها أسعار الفائدة المرتفعة إلى مالكي المنازل. يتمثل الخطر الأكبر بالنسبة للمقترضين على الرهون العقارية ذات السعر العائم، والتي تتقلب مع التغيرات في أسعار الفائدة. إنهم يواجهون انخفاضاً فورياً في دخلهم المتاح.
في كندا تمثل القروض العقارية المتغيرة السعر أكثر من نصف جميع القروض، في أستراليا والسويد يمثلون ما يقرب من الثلثين، في البلدان الأخرى يكون الاقتراض محدد الأجل أكثر شيوعاً، مما يعني أن ارتفاع الأسعار يمر بتأخر كبير، الغالبية العظمى من الرهون العقارية في أميركا على مثل هذه الشروط، كما أصبحت هذه القروض العقارية أكثر شيوعاً من ذي قبل في جميع أنحاء أوروبا.
لكن ليست كل القروض محددة الأجل متشابهة. في أميركا تم إصلاح الجزء الأكبر منها لمدة عقدين أو ثلاثة عقود، في بلدان أخرى سيواجه حتى المقترضون ذوو الفائدة الثابتة ارتفاع تكاليف الرهن العقاري قريباً بما يكفي.
تشكل الرهون العقارية ذات السعر الثابت في نيوزيلندا الجزء الأكبر من القروض الحالية، ولكن أكثر من 70٪ لها أجل استحقاق أقل من عامين. وكذلك الحال في بريطانيا أيضاً.
إن حدوث أزمة في قطاع الإسكان ستكون لها عواقب وخيمة حيث "إن دورة قطاع الإسكان هي جزء أساسي من دورة الأعمال، وتباطؤ الإسكان قد سبق ثماني من فترات الركود العشر الماضية في أميركا، كما يعتبر الاستثمار قناة مهمة أخرى بين سوق الإسكان وبقية الاقتصاد، يمكن أن يكون الإنفاق الرأسمالي المرتبط بالإسكان، وخاصة بناء المساكن الشديدة التقلب، وغالباً ما يكون هو الفرق بين اقتصاد متنامٍ أو متقلص.
التأثير الأكبر لتراجع قطاع لإسكان يتم صرفه في السياسة، خاصة في الظروف الاقتصادية السيئة وعندما يكون النمو في الأجور الحقيقية سلبياً والتضخم ينهش في القوة الشرائية للمواطنين، يشعر أصحاب المنازل بالارتياح في فكرة أنه حتى لو كان التضخم مرتفعاً والقوة الشرائية منخفضة، فإن أسعار منازلهم على الأقل ترتفع، لذلك فإن استمرار رفع أسعار الفائدة وركود قطاع العقارات ستكون له تداعيات سياسية لا يمكن التنبؤ بها.