غيّرت الثورة السورية وما تلاها من حرب مجنونة وغير عادلة مصائر السوريين إلى الأبد، وقلبت حياتهم رأسًا على عقب، ووضعتهم في مسارات جديدة لم يكونوا حتى يتخيلونها،"قصف وموت يلاحقهم أينما ذهبوا، ودمار وفقد لم تنجُ منه عائلة سورية واحدة، سواء كانت مؤيدة للثورة أو للنظام، عدا عن التغيير الكبير الذي حصل في الديموغرافيا السورية، وما نجم عن الحرب من آثار مجتمعية سلبية تتمثل في الفقر والانهيار الاقتصادي والمعيشي، وانتشار ظواهر كالإدمان، وعمالة الأطفال، والدعارة، والتسول.
كما ظهرت طبقات جديدة أثرت من الحرب، وساهم ثراؤها في تكريس الشرخ الطبقي الخطير في المجتمع السوري الذي انقسم بدوره إلى مجتمع تحت سيطرة النظام، وآخر تحت سيطرة الفصائل المسلحة في الشمال وفي الشرق السوري. ولا ننسى مجتمعًا سوريًا آخر تتجاوز مأساته ما نال باقي السوريين، وهو مجتمع النازحين في المخيمات في لبنان وتركيا والأردن، الذين يتعرضون لحملات كراهية عنيفة وقاسية وظالمة، لا سيما في لبنان وتركيا؛ هؤلاء يبدو مصيرهم في مهب الريح فعلًا، إذ تُجرى محاولات حثيثة لترحيلهم إلى سوريا، حيث ينتظرهم الاعتقال أو الموت تحت التعذيب، وحيث لا مكان لهم، إذ أن معظمهم قد تدمرت بيوتهم وقراهم وبلداتهم بالكامل، أو تم احتلالها من قبل ميليشيات ومرتزقة قاتلت مع النظام خلال سنوات الحرب. إضافة إلى ذلك، فإن المخططات التنظيمية الجديدة التي وضعها النظام لمنطقة ريف دمشق، والتي كان التهجير منها شبه كامل، حرمت أصحاب الأرض من أرضهم وملكهم، وهؤلاء بكل حال ممنوعون من العودة إلى بلداتهم بقرار رسمي واضح وصريح. (وهنا أتذكر سؤالًا وجه للفنان السوري المقرب من بشار الأسد، باسم ياخور، في آخر لقاء معه حول عودة اللاجئين من لبنان، حيث قال بما معناه إنه مع عودتهم شريطة ألا تزيد عودتهم من تفاقم الأزمة السورية!).
على الرغم من أن الحرب، في أدبيات العالم، قد انتهت، إلا أن السوريين في الداخل السوري ما زالوا يعانون من نتائجها في حياتهم اليومية، الأمر الذي يجعلهم، حتى اللحظة، يبحثون عن طرق للنجاة من الجحيم الداخلي الذي يعيشون فيه.
وعلى الرغم من أن هذا الرد الغريب مر مرور الكرام، إلا أنه يدل على قرار متخذ من قبل النظام بترك ملف اللاجئين كما هو. أليس هذا أيضًا أحد أسباب عدم تجاوب النظام مع دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمصالحة، التي تستهدف ترحيل اللاجئين السوريين في تركيا إلى الداخل السوري؟ وهو ما يسعى النظام لتجنبه كي لا يضطر إلى التعهد، دوليًا، بتحمل مسؤولية العائدين اللوجستية والمعيشية.
وعلى الرغم من أن الحرب، في أدبيات العالم، قد انتهت، إلا أن السوريين في الداخل السوري ما زالوا يعانون من نتائجها في حياتهم اليومية، الأمر الذي يجعلهم، حتى اللحظة، يبحثون عن طرق للنجاة من الجحيم الداخلي الذي يعيشون فيه، والهرب إلى أي مكان في هذا العالم، الذي باتت مساحته في استقبال المزيد من السوريين ضيقة جدًا، مما يدفع الشباب إلى خوض تجربة الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط للوصول إلى أمان ما، رغم كل المخاطر في هذا النوع من الهجرات، ورغم الأعداد الكبيرة من خيرة السوريين الذين ابتلعهم البحر في محاولتهم العبور نحو الأمان خلال العقد الماضي. لكن يبدو أن مغامرة من هذا النوع قد تبدو الحل الوحيد للنجاة من حالة اليأس المطلقة التي يشعر بها معظم السوريين، لا سيما الشباب الذين كبروا مع حرب أغلقت في وجوههم كل أبواب ونوافذ المستقبل. ورغم أن تجارب الهجرة غير الشرعية تركت آثارًا مدمرة على الكثيرين ممن خاضوها، حيث دفعت بعضهم نحو الإدمان بعد وصولهم إلى أوروبا، وفتكت بأعصاب آخرين فأصابتهم علل جسدية ونفسية مدمرة، إلا أن ما من حل آخر أمام شباب يبحثون عن نقطة مضيئة واحدة في حياتهم قد تتحقق لهم من خلال مغامرة كهذه. "لم يكن عندي شيء لأخسره، لا مستقبل ولا مال ولا حياة. هي مغامرة إما تقتلني أو تنجيني" قال لي ذلك شاب سوري وصل قبل أيام إلى دولة أوروبية بعد رحلة مهولة في البحر، منذ خروجه من سوريا إلى طرابلس وحتى وصوله إلى إيطاليا باتجاه الدولة المنشودة.
لكن في مقابل كل ما سبق، وجد الكثير من السوريين فرصًا مهمة بعد استقرارهم في مجتمعاتهم الجديدة في دول اللجوء. تجربة اللجوء السوري هي واحدة من أضخم موجات النزوح في عالمنا المعاصر، حيث حمل أصحابها معهم تراثًا ثقافيًا عريقًا مكنهم من التفاعل مع بيئات اجتماعية جديدة ومختلفة، مما أتاح لهم فرصًا بالغة الأهمية في التعلم المتبادل وتوسيع مداركهم وآفاقهم عبر إتقان اللغات الجديدة والدخول في سوق العمل المجتمعي واكتساب الخبرات نتيجة الاحتكاك مع العالم المتقدم. تمكن الكثير منهم من التكيف والاندماج رغم اختلاف الثقافة والهوية والعادات والتقاليد في المجتمعات المضيفة، كما أتاح لهم اللجوء ولأولادهم فرصًا استثنائية في التعليم ذي المستوى العالي عبر الحصول على منح دراسية في جامعات مرموقة، وتخرجوا منها كباحثين وأكاديميين، عُيّنوا في مناصب متقدمة في عدة دول. كما تمكن السوريون من تأسيس شركات ومؤسسات صغيرة تحولت مع الوقت إلى مراكز عمل كبيرة قدمت فرص عمل للكثير من الشباب السوريين وغير السوريين. ولعل نجاح السوريين في بلاد مثل مصر ودول الخليج العربي والأردن وحتى تركيا هو دليل ملموس على قدرتهم على التأقلم وعلى تأسيس مشاريع ناجحة. حتى في مجال الثقافة والفنون والإبداع، نجح السوريون في تقديم ما لديهم للعالم ودمجه في حركة الإبداع العالمي عبر قدرتهم على الاستفادة من المنح الثقافية والفنية التي قدمتها لهم منظمات المجتمع المدني في مجتمعاتهم الجديدة.
السوريون يتمتعون بنوع من الإصرار والرغبة القوية في بناء حياة جديدة، مهما كانت ظروفهم قاسية وصعبة، كما أنهم، في أغلبهم، قادرون على بناء علاقات قوية مع شعوب هذه المجتمعات.
لكن، لنعترف بأن نجاح السوريين في أماكن لجوئهم يعود أولًا إلى أنهم شعب يتمتع بصفات ميزتهم عن غيرهم من اللاجئين، وهو ما يتم تداوله ليس فقط بين الشعوب المضيفة، وإنما لدى الهيئات الرسمية الدولية. فالسوريون يتمتعون بنوع من الإصرار والرغبة القوية في بناء حياة جديدة، مهما كانت ظروفهم قاسية وصعبة، كما أنهم، في أغلبهم، قادرون على بناء علاقات قوية مع شعوب هذه المجتمعات، مما مكنهم من الحصول على الدعم الشعبي اللازم لأي نجاح. السوريون شعب اجتماعي وأنيق ومسالم في الغالب، ومهذب وودود، ومحتفظ بالود، ولا يفتعل المشاكل بل يتجنبها في الأغلب. خلال أكثر من عقد من الزمن، لم يتجاوز عدد المتورطين من السوريين في كل بلدان لجوئهم في مشاكل اجتماعية أو أمنية أو اقتصادية عدد اليد الواحدة، رغم أنهم فارون من حرب مجنونة وخاضوا الأهوال للوصول إلى مجتمعاتهم الجديدة، وهذا بحد ذاته كفيل بأن يظهر كل السوء المختزن داخل أي إنسان. ومع ذلك، تمكن السوريون من الحفاظ على معدنهم الأصيل وقدرتهم على التجاوز والتأقلم والعيش ومواصلة الحياة. وهنا نتحدث عن السوريين في العموم، عن الشعب العادي، لا عن النخب ولا المثقفين، فعادة ما يتم اختبار معدن الشعوب وقدرتها على مواصلة الحياة من عموم شعبها، لا من نخبها، التي يُفترض أنها قادرة على التجاوز بفضل ما تملكه من مؤهلات خاصة بها لا تتوافر عادة لدى باقي الشعب.
غيّرت الحرب التي تلت الثورة مصير السوريين إلى الأبد، ورغم الفوارق بين مصائر المجتمعات السورية المختلفة، إلا أنني، شخصيًا، أمتلك كامل الثقة بأن كل السوريين سوف يتمكنون من مواصلة حياتهم وبناء ما تهدم منها، وإعادة إعمار مجتمعهم السوري الواحد لوجستيًا ومعنويًا ونفسيًا وإنسانيًا. مرّ في التاريخ السوري، وفي الحضارات السورية المتعاقبة، الكثير من الأحداث الخطيرة والمدمرة، ومع ذلك تمكنت سوريا من النجاة والبقاء حتى اللحظة. وما تمر به حاليًا ليس سوى مرحلة زمنية سوف تعبر وتمضي كما مضى غيرها. سوف تحيا سوريا وتنجو لأن شعبها الحقيقي قادر على العيش في كل الظروف، وقادر على البقاء والنجاة مهما طاله من الظلم والإجرام.