كانت أسوأ كارثة يشهدها لبنان في عام الكوارث، إلا أن انفجار المرفأ الذي دمر أجزاء واسعة من شرق بيروت في شهر آب الماضي تحول إلى ضربة قاصمة للسوريين في تلك المنطقة، حيث قتل منهم أكثر من 40 شخصاً في تلك الحادثة، 23 منهم على الأقل مسجلون كلاجئين بحسب ما أوردته الأمم المتحدة.
كان من بين هؤلاء السوريين روان مستو وهي في العشرين من عمرها تعمل نادلة في محل للكوكتيلات بتلك المدينة. وهنالك أيضاً عاملون في المرفأ، وعمال بالصدفة مثل عبد القادر بلوسو من حلب، وهو رجل في الثالثة والأربعين من العمر، إلى جانب أطفال مثل جود أحمد صطيفي وهي فتاة في الثالثة عشرة من عمرها فارقت الحياة في حي الكارانتينا مع أمها خالدية وشقيقتها لطيفة البالغة من العمر 24 عاماً.
وتخشى وكالات الإغاثة من أن يغرق السوريون البالغ عددهم تقريباً 200 ألف نسمة والذين بالكاد يحصلون لقمة عيشهم في بيروت في مزيد من الفوضى واليأس، في الوقت الذي يعيش فيه لبنان مصاعب تتمثل بمحاولة إنعاش أرواح الناس حتى بين مواطنيها.
تقول سلمى خليفة البالغة من العمر 14 والتي تعود أصولها إلى مدينة درعا السورية: "لا أرى أي مستقبل لي هنا"، إذ تعيش هذه الفتاة مع أسرتها بالقرب مما تبقى من الميناء، في منطقة برج حمود، وقد تحول التفجير بالنسبة لهم إلى القشة التي قصمت ظهر البعير في عام انهار فيه اقتصاد لبنان، وشلت عملية الإغلاق بسبب انتشار فيروس كورنا الحياة التي بلغت مرحلة الجمود. وهذا الوضع يسري على اللبنانيين أيضاً، إلا أن الكثير من السوريين كانوا بالأصل يعيشون على الخبز فقط.
وسلمى شأنها شأن بقية الأطفال في مختلف بقاع العالم أصبح عليها أن تدرس من البيت إلى أن تتم إعادة فتح المدارس، إلا أن أسرتها، بخلاف معظم الأسر اللبنانية، لا تستطيع أن تتحمل تكاليف شراء حاسوب، ولهذا أصبحت الدراسة عن بعد عبر الإنترنت تعني مشاركتها لهاتف ذكي رخيص مع شقيقها وشقيقتها.
اقرأ ايضا: تحقيقات الـ FBI بانفجار بيروت: 2200 طن من نترات الأمونيوم مفقودة
وحتى عندما تمت إعادة فتح المدارس، يخبرنا والدها أسعد خليفة بأن الأولاد لن يستطيعوا أن يداوموا في المدرسة، وذلك لأنه لم يعد بوسع الأسرة أن تتحمل أجور النقل بالحافلات، فقدْ فَقَدَ هذا الرجل عمله في صب الترسانة بمواقع البناء، وأصبحت تلك الأسرة تعيش اليوم على الأموال التي يجنيها الابن البالغ من العمر 16 عاماً وذلك عبر توصيل الطلبات لمطعم مخصص للوجبات السريعة، إذ يعادل أجره 50 ألف ليرة لبنانية بالأسبوع، والتي كانت في السابق تعادل 25 جنيهاً إسترلينياً، أي مجرد مبلغ تافه حتى قبل وقوع الانفجار. أما اليوم، وبعد هبوط العملة بالتوازي مع تدهور الاقتصاد، أصبحت قيمة ما يتقاضاه ذلك الفتى تعادل خمسة جنيهات إسترلينية.
لم تتعرض سلمى لأي إصابة جسدية في الانفجار، غير أنها أصبحت تعاني من ذكرياتها التي تشوبها صدمة كبيرة والتي تعود للسنوات الأولى من حياتها، عندما كانت درعا تتعرض للقصف على يد جيش الأسد، وهذا ما عبرت عنه بالقول: "كان التفجير أشبه بما عشته عندما كنت في سوريا، إلا أن التفجير كان مرعباً أكثر بكثير"، فقد هبط وزنها في غضون شهرين ليصبح 14 كلغ تقريباً حسبما ذكرت والدتها.
إن الأسر من أمثال أسرة سلمى تحصل على مساعدات غذائية من كنيسة محلية، فمنطقة برج حمود تعتبر منطقة مختلطة ذات أغلبية مسيحية، وقد تلقت سلمى دعماً نفسياً وبعض الدروس التعليمية الإضافية من جمعية "كير" الدولية وهي جمعية خيرية.
وتصور لنا "دلال حرب" الناطقة الرسمية باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في بيروت حجم تلك المشكلة فتقول: "إن نسبة اللاجئين الذين يعيشون تحت حد الفقر المدقع قد قفزت من 55% إلى أكثر من 75% اليوم".
وبعد مرور شهرين على الانفجار الذي قتل فيه 200 شخص تقريباً، والذي طال أغنى أحياء بيروت، بدأت بعض الأجزاء في المدينة تعيد بناء نفسها ولكن بشكل بطيء. فقد قام عدد كبير من الحانات والمطاعم الموجودة في الجميزة ومار مخايل التي تعتبر من أرقى المناطق للحياة الليلية بالاعتماد على عمليات جمع التبرعات المالية لشراء شبابيك وأبواب جديدة، وحتى تتمكن تلك المطاعم من دفع رواتب الموظفين لديها. في حين تحركت جمعيات خيرية مهتمة بالتراث الإنساني للمساعدة في استعادة وتجديد بعض الأبنية ذات الطراز المعماري الذي يعود للحقبة العثمانية في تلك المنطقة، إلا أن الكثير من الأبنية الأخرى ماتزال مدمرة، إذ لم يعد لدى مالكي الأبنية السكنية العادية مبالغ بالعملة الصعبة والتي تلزمهم بإعادة البناء في ظل الأزمة الاقتصادية. كما يخشى كثيرون من أن تهجر شوارع بأكملها من سكانها، هكذا بكل بساطة، كما حدث لبعض الشوارع عقب الحرب الأهلية، حيث تركت خاوية على عروشها.
وبالنسبة للسوريين، فقد غيرت الأزمة علاقتهم بوطنهم الجديد إلى حد بعيد، فمن بين المليون ونصف المليون سوري يعيش في لبنان تم تسجيل أكثر من 870 ألفاً منهم كلاجئين، ثم إن غيرهم كثيرون كانوا بالأصل يزاولون عملاً في لبنان الذي كان يعتبر دولة أغنى من دولتهم حتى قبل الحرب السورية، حيث تمكن بعض اللاجئين من الحصول على وظائف جيدة في بداية الأمر.
وهنا نذكر سيلفا عبدو وهي من الشمال السوري عمرها 16 عاماً، والتي تلقت تعليماً بفضل البرنامج الحكومي اللبناني الذي يقدم الدعم لمدارس اللاجئين، في الوقت الذي تمكنت فيه والدتها فاطمة من تحصيل وظيفة خياطة في معمل للألبسة، حيث كانت تتقاضى ما يعادل 1200 جنيه إسترليني بالشهر.
غير أن الوضع تغير الآن إلى النقيض، إذ عندما حدث الانهيار، قام معظم أصحاب العمل بتسريح السوريين قبل أبناء جلدتهم، ولهذا أصبحت فاطمة اليوم تعيش من عملها بالقطعة. إلا أن سيلفا بدأت بالتطوع لدى مشروع إغاثي، حيث أصبحت تعمل اليوم بعدما انقطعت عن المدرسة، لكنها أصبحت تعيش بين عالمين، وهما لبنان حيث تعيش أمها، وسوريا حيث مايزال أبوها يعيش ويعمل في مصنع بمدينة منبج المتنازع عليها، ولا ينتظره هناك سوى مستقبل أسوأ بكثير من المستقبل الذي يمكن أن ينتظر المرء في بيروت.
وترى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بأنه بات عليها اليوم أن تمد يد العون للبنانيين أيضاً، لتضمن على الأقل إمكانية استمرارهم باستضافة اللاجئين الذين يعادل عددهم ربع عدد الشعب اللبناني تقريباً، وتلك أكبر نسبة للاجئين في أي دولة بالعالم. وهنا تعلق السيدة حرب على ذلك بالقول: "إن أكبر تحد بالنسبة للاجئين اليوم قد اختزلت لفكرة البقاء على قيد الحياة، وذلك لأنهم بلغوا مستوى من الضعف لم يسبق لهم أن بلغوه من قبل".
المصدر: تايمز
اقرأ أيضا: قصة عائلة سورية كانت صورها الأشهر في كارثة انفجار ميناء بيروت