icon
التغطية الحية

سوريا من صناعة البروكار إلى تدوير النفايات

2024.06.17 | 06:34 دمشق

54674567
+A
حجم الخط
-A

منذ بداية القرن الماضي نشطت في سوريا صناعة وتجارة الحرير، وفي الخمسينيات بلغت أوج ازدهارها الإنتاجي، ونشطت بموازاة ذلك صناعة البروكار التي تختص بها دمشق وحدها. والبروكار من أفخم أنواع الأقمشة في العالم، وهو صناعة يدوية، ويشكل الحرير الطبيعي المادة الأساسية فيها، ويمكن إدخال خيوط الذهب والفضة في سدو القماش، لأنها صناعة يدوية تقوم على استخدام النول. وهناك بروكار طبيعي وبروكار نباتي، وهو المصنوع من الحرير الصناعي. والبروكار من الصناعات الدقيقة والمجهدة، حيث إن ما ينتجه العامل خلال اليوم، لا يتعدى متراً ونصف المتر من مادة البروكار. وقد تراجع إنتاج الحرير، وتراجعت معه هذه الصناعة لأنها لم تلق الرعاية والاهتمام التي تستحقهما.

اللافت للنظر أن هذه الصناعة التي لا يؤثر الحصار الدولي المزعوم على عملها، وإنتاجيتها، توقفت أو تكاد، ونشطت الصناعات المتعلقة بإعادة التدوير.

تعريفا، المقصود بإعادة التدوير هو "استخدام المخلفات؛ لإنتاج منتجات أخرى أقل جودة من المنتج الأصلي"، وهذه الآلية موجودة منذ القدم. وهذا ما سيذهب إليه قارئ عنوان هذا المقال، من حيث إن هذه الصناعة قد أصبحت رائجة في العصر الحديث. هذا العصر الذي لم ننتم إليه يوما.

علما أنه ليس لدينا تلك المخلفات التي يمكن أن تنهض بها تلك الصناعة، وخاصة بالنسبة للمواد الغذائية، فخبزنا "المقنون" وفق البطاقة الذكية، على قدّنا، وطعامنا على قدّ خبزنا. تلك هي معادلة حياة أغلب الشعب السوري.

إلا أن هذا لم يمنع كثيرا من الأسر السورية الفقيرة أن تتفرغ لجمع الكرتون والبلاستيك والزجاج من الطرقات، وحاويات القمامة، لتغذي ورشات، ومصانع بدائية، يعتاش على العمل بها عدد كبير من السوريين. إلا أن النفايات في تعريفها العام لا تتوقف عند المستهلك من الكرتون والمعادن والبلاستيك والزجاج وبقايا الطعام، فهي تشمل كل ما يمكن استهلاكه، من الآليات والسيارات، والجرارات، والحصادات، والأدوات الكهربائية على اختلافها، والأهم من ذلك: الخطابات والشعارات، وما يتقيؤه المحللون السياسيون على شاشات التلفزة، وما ينشره كتّاب التدخل السريع في الصحافة الورقية والإليكترونية، والكثير من المحاضرات (الفكرية)، والأمسيات (الشعريّة)، والقرارات، والاجتماعات والتوصيات. آلاف النسخ الرديئة من الممسوخين الذين مشوا على أوجاعنا خلال العقد المنصرم، بصفاقة قل نظيرها!! يتحدثون، ويكتبون بلغة غير مقيدة بشرط التفكير!! هذه النفايات أخذت موقعها المتقدم، وأصبحت فخر الصناعة السورية في العصر الحديث، مما يذكر بمقال نعوم تشومسكي عن استراتيجيات التحكم بالشعوب، وأولها استراتيجية الإلهاء، وتتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشكلات المهمة، والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، وتشتيت اهتمامات العامة، وتجريد الناس من الحس النقدي، من خلال ما يقدم عن طريق الميديا، وبذلك يقوم الإعلام بإحدى وظائفه المواربة، والتي هي خلق رأي عام، قائم على استثارة العاطفة لتعطيل التحليل المنطقي، والتعامل مع وجهات النظر التي يقدمها الإعلام على أنها مسلمات. علما أن تلك الموجة لم يركبها سوى عدد قليل نسبيا من مدّعي المعرفة، إلا أن أثرها في العامة كان واضحا وملحوظا في البداية، فالناس كانت مشغولة بجراحها، أكثر من انشغالها بلقمة عيشها، كما هو الحال الآن.

سوريا الآن تفتح قلق الأسئلة، ففي سوريا الآن يتجلّى مكبوت العنف وتحالفات الفوضى والمصالح والطوائف والعشائر والخيانات والصفقات، والوطنيات أيضا

في تلك الفترة، أصبح الوطن منصة للخطابة، وقد نضج الواقعيون الجدد، ووقفوا بين الماضي، والمستقبل، لإبعاد الوعي الوطني عن الحاضر. ولم يكن هذا نتيجة لتشوه في الإدراك، بل هو نتيجة حالة نفعية فردية تقوم على تغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة. وهذا يقتضي التحدث بكلام لا يحيل المستمع إلى معنى، كلمات منمقة ولكنها منفصلة عن مداليلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من خلال إعادة تدوير مفهوم الوطن، والوطنية، والسياسة، والسيسيولوجيا، والمواطنة، والتعايش، والحقوق، والواجبات، والثورة، والحرية، والديمقراطية، والمساواة، والعدو، والصديق، والحليف، والعروبة، والإسلام أيضا. هم يعرفون أن اللغة عنصر مشترك، كما تقول أوليفيا لاينغ، ويعرفون أيضا أن لا مشترك بيننا وبين ما يقولون، سوى اللغة. لذلك فرّغوا المفاهيم من مداليلها الواقعية، وملأوا الميديا بذلك الهراء، بقصد تحويلنا إلى كائنات أليفة؛ تقتادنا تلك الأيديولوجيات إلى حظائرها، بالترغيب حيناً، والترهيب دائما. إذ أن ما يميز الأفعال هو مقاصدها، وليس أي شيء آخر.

أولئك الكتبة كانوا على معرفة واطلاع على ما قاله جوزيف غوبلز، بوق الإعلام النازي: "كلما كبرت الكذبة أصبح تصديقها ممكنا، اكذب ثم اكذب، حتى يصدقك الناس". والناس آنذاك لم يكن لديها مرجعا سوى الإعلام المرئي، ومواقع التواصل الاجتماعي. تلك هي قصة الموقد الذي أصبحنا حطبه.

***

اللافت أن سوريا أيام البروكار لم تكن بحاجة إلى إعادة تدوير منتجاتها المستهلكة، كانت تتعامل مع الأشخاص والأفكار والأشياء وفق مبدأ الوفرة. آنذاك كان الوطن حاضرا، وكانت الوطنية تتجلى في تماسك اليقين، وكل ما جرى ويجري، إلى الآن هو لزعزعة ذاك اليقين الوطني النظيف.

سوريا الآن تفتح قلق الأسئلة، ففي سوريا الآن يتجلّى مكبوت العنف، وتحالفات الفوضى، والمصالح والطوائف والعشائر والخيانات والصفقات، والوطنيات أيضا. سوريا الآن هي سوريا الجميع، وسوريا اللاأحد! سوريا الآن موجودة بأهلها بدون دليل، وهم فيها بلا برهان.

نستخلص من هذا كله أن تحولا طرأ على طبيعة المطلوب، فما هو المطلوب بعد كل تلك التحولات؟ هل المطلوب هو الحقيقة أم المعنى؟ ثم ما هو المعنى؟ هل هو الدلالة أم العبرة؟ وما هي العبرة التي يمكن أن نستخلصها من كل ذلك؟ هذه التساؤلات ولادة بطبيعتها، ولا يمكن ضبطها بأجوبة قاطعة.

لقد سقطت ورقة التوت، ولم يعد التلطي خلف الشعارات؛ وما توارثناه من مقولات التمجيد مجدياً، صرنا بحاجة ماسة لمعرفة أنفسنا أولاً، وقبل أي شيء آخر.