تصادف في هذه الأيام ذكرى 8 آذار، اليوم الذي أسس لهذا الخراب الذي يعصف بنا الآن، فمنذ أن استطاع حزب البعث الوصول إلى السلطة عبر انقلابه العسكري 1963م، اختُطفت الدولة السورية، وخسر السوريون مشروع دولتهم الذي لم يكن قد اكتمل يومها، لكنه كان قابلاً للحياة والتطور.
إذا كانت الدولة في أبسط توصيف لها تعني أنها المؤسسة التي تعبر عن إرادة المجتمع وتعمل على تحقيق مصالحه، فإن السلطة التي أنتجها البعث جعلت من الدولة بعد أن اختطفتها مجرد مؤسسة تعبر عن السلطة، ولاعلاقة للمجتمع وإرادته بها، ولم تتوقف قيادة البعث عند هذا الحد، بل عمدت لاحقاً إلى اختطاف المجتمع أيضاً، وهكذا أصبحت وبلا خجل، تردد دائماً أنها تمثّل الدولة والمجتمع.
لم يترك البعث في سوريا للشعب السوري أن يُصبح شعباً بالمعنى المتعارف عليه، فالشعب بالمعنى السياسي يختار ممثلين له، ويمكن له محاسبتهم ومساءلتهم، وبالمعنى المدني والاجتماعي يبني مؤسسات المجتمع المدني المنفصلة عن السلطة، ويخلق فضاءات لأوجه نشاطاته الأخرى، لكن البعث وبديكتاتورية الإيديولوجيا، وبعسف أجهزته الأمنية وبسجونه جعل من السوريين مجرد رعايا للسلطة، كأنّما هذا الشعب مجرد إرث تنتقل ملكيته من قادة انقلاب إلى قادة انقلاب آخر.
أدلجة الدولة وفق أي إيديولجيا، هو وأد لها، وعليه لا يمكن للدولة أن تكون دينية، ولا يمكن لها أن تكون طائفية، أو حزبية، أو فئوية
اليوم تستمر الكارثة التي تسبب بها البعث، ليس عبر من ورثوا السلطة فقط، بل وأيضاً عبر من ثاروا ضد البعث ونهجه، وضد السلطة ونهجها، فأدلجة الدولة وفق أي إيديولجيا، هو وأد لها، وعليه لا يمكن للدولة أن تكون دينية، ولا يمكن لها أن تكون طائفية، أو حزبية، أو فئوية أو..أو..، لأنها في جوهرها ومعناها غير معنية بكل هذه التصنيفات، فالفرد المواطن هو اشتغالها ومبرر بنيتها، وحفظ حقوقه وكرامته وأمنه ومصالحه هي وظيفتها، لا يهمها منه أي توصيف آخر، أو أي انتماء.
إذا كانت الدولة وفق أحد وجوه منطق العلمانية خارج أطر الدين أياً يكن، فإنّها أيضاً وبنفس الدرجة خارج أي إيديولوجيا، فالأديان على إطلاقها لا تساوي بين البشر، وهي تصنفهم، وكذلك الإيديولوجيا، فكيف يمكن للدولة إذا أن ترتكز على المساواة العادلة التي تفترضها المواطنة، وكيف لها أن تعزز من الانتماء الوطني، إذا كانت تصنف مواطنيها، وتعجز عن المساواة فيما بينهم؟!
يقودنا ما سبق إلى أسئلة كثيرة لا يمكن لنا كسوريين أن نتجاهلها، أو أن ندير ظهرنا لها، أسئلة تتفرع عن سؤال مركزي وهو أي دولة نريد، أي دولة تمكّننا كشعب من أن نعيش معاً، وهل نستطيع أن نقطع مع صيغة "الدولة" التي عرفناها، والتي كانت في معظمها الأعم دولة ترى المواطنين رعايا لا مواطنين؟
إذا كنا متفقين أن الدولة التي نريد - والقابلة للحياة والاستقرار- هي دولة المواطنة العادلة، المتساوية المتكافئة، فإن السؤال الأول في الأسئلة التي تطرحها اللحظة الراهنة على السوريين هو كيف يمكننا أن نحمي الدولة من أن تختطفها جهة دينية، أو جهة مؤدلجة على نحو آخر، عندما تتمكن هذه الجهة من السيطرة على السلطة، وتستقوي بقوة المقدس أو بقوة الإيديولجيا؟
السؤال الثاني الذي يواجهنا أيضاً، هو كيف سنحمي هوياتنا الفرعية في علاقتها مع الدولة، وفي علاقتها مع الهويات الفرعية الأخرى، بعبارة أخرى هل يمكن لدولة تنحاز بأي صيغة كانت، ومهما كانت هذه الصيغة مخففة أو متواطئة مع هوية فرعية ما، أن تكون دولة مستقرة وعادلة، وأن تحمي كما يفترض بها باقي الهويات الفرعية؟
السؤال الثالث الذي يمكن لصيغة الإجابة عليه أن تؤسس لخراب الدولة أو استقرارها، والذي يتجنبه السوريون منذ تأسيس دولتهم، رغم أنه كان الأكثر حضوراً في عمق رؤيتهم للدولة، وللآخر الذي يتشارك معهم هذه الدولة، وهو السؤال المتعلق بالهوية الفرعية المستعلية، فكل هوياتنا الفرعية تستعلي في جوهرها على الهويات الفرعية الأخرى، وترى فيها كفراً، أو ترى فيها دونية، وتقيم علاقتها معها وفق منظور العداء المستتر أو المعلن، وهل يمكننا أن نصل إلى مرحلة الإقرار والقبول بحيادية الدولة حيال هوياتنا الفرعية، وبأن الهويات الفرعية الأخرى شأن يخص حامليها، ولها حق الوجود بالدرجة نفسها التي تمتلكها هويتنا الفرعية؟
كل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المتجاهلة أو المسكوت عنها، لا يُمكن الإجابة عنها بسهولة، ولا يُمكن حتى للأجوبة في حال وجودها أن تكون غير متصادمة، ما لم يسبقها أمر هو في غاية الأهمية، وللأسف فإنه أيضاً في غاية الخطورة، رغم أنه بوابة الوصول لمجتمع مسقر يغتني بتنوعه، وبتعدده وباختلاف ثقافاته، وأقصد حاجتنا لإصلاح ديني حقيقي، شجاع، ومسؤول، وللأسف أيضا فإن فكرة الإصلاح الديني غالباً ما تُفهم على أنها تخص دين وطائفة الأغلبية فقط، وهو أمر غير صحيح، ولا يُمكن أن ينتج المقدمة الضرورية لقيام دولة منسجمة متماسكة، فالحاجة للإصلاح تطول كل الصيغ الدينية بغض النظر عن تصنيفها أو عددها، ولعل الأهم في هذا الإصلاح هو في تكريس فهم جديد للعلاقة بالآخر، وبالفضاء العام للمجتمع، وبالدولة.
نحن عالقون في الماضي الذي يشلّ حاضرنا، ولا مستقبل لنا لأن المستقبل هو ابن الحاضر، ولهذا فنحن بحاجة إلى مجموعات من مفكرين، ورجال دين وسياسيين تقرر العمل معاً لفك ارتهاننا للماضي
عندما قرّر الغرب بناء الدولة الحديثة، لم يكن المسيحيون أقل إيماناً بدينهم من المسلمين اليوم، ولم يكونوا أقل تعصباً في دينهم، ومع ذلك عندما رأوا أن المسألة هي مسألة بقاء، وأن العنصرية والطائفية تهدد هذا البقاء، فتجاوزوا طوائفهم الدينية وتصنيفاتهم الأخرى، وقرّروا بناء الدولة خارج كل هذه الأُطر، وبعيداً عنها.
نحن عالقون في الماضي الذي يشلّ حاضرنا، ولا مستقبل لنا لأن المستقبل هو ابن الحاضر، ولهذا فنحن بحاجة إلى مجموعات من مفكرين، ورجال دين وسياسيين تقرر العمل معاً لفك ارتهاننا للماضي، ولإنجاز إصلاح ديني حقيقي، يسهم ويدعم إصلاح الأوجه الأخرى للمجتمع، هذه المجموعات تتحول لاحقاً إلى طبقة تقوم بعملية التغيي، كما فعلت طبقة المتنورين بالقرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا.