يصادف شهر آذار من العام 2021 الذكرى السنوية العاشرة لقرار بشار الأسد الذي يقضي بشن حرب على المتظاهرين السلميين، وقد نجم عنه تدفق كبير للاجئين أدى في نهاية المطاف إلى تغيير سياسة أوروبا بطريقة أسعدت سكان الكرملين. كما أدى ذلك القرار إلى تدمير "الدولة السورية"، وأسفر عن ظهور استجابات للسياسة الأميركية قامت بتعميق الأزمة كما قوضت من صدقية الولايات المتحدة، سواء في الداخل السوري أو خارجه. والآن يتعين على أي إدارة أميركية جديدة أن تتعامل مع تلك المشكلة التي وصلت إلى قعر جهنم، ولكن ما الذي يمكن فعله بعد كل هذا؟
إن الموقف الافتراضي للرئيس جو بايدن وفريقه من المحتمل أن ينضوي ضمن حدود محاولة إدارة الفوضى. ولكن لنكون منصفين، لا بد أن نعلن بأن الإرث الذي خلفته إدارة دونالد ترامب في سوريا لم يكن ساماً، كذلك الذي تركته إدارة أوباما لمن أتى بعدها.
إذ خلال سعيه الحثيث لعقد اتفاق نووي مع إيران، الحليفة الإقليمية للأسد، رفض الرئيس أوباما وبكل إصرار أن يحرك أي ساكن للوقوف في وجه المجازر الجماعية التي يتعرض لها المدنيون أو لمعاقبة النظام السوري عليها والذي اتخذ منها وسيلة وأسلوباً للنجاة والبقاء في سدة الحكم، بل حتى عندما قام أوباما بنشر جنوده لمحاربة تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا وفي العراق، لم يفعل أي شيء من ذلك. فقد نقلت صحيفة وول ستريت جورنال رسالة كتبها أوباما ووجهها للمرشد الأعلى في إيران، أكد له فيها أن العمليات العسكرية الأميركية في سوريا لن تستهدف صاحبه، الذي سبق له أن تجرأ أكثر بعد انهيار الخط الأحمر الذي رسمه له أوباما في عام 2013، وهكذا أخذ الأسد يسفك الدماء كما يحلو له إلى أبعد الحدود، بالاعتماد على ذلك الشيك الموقع على بياض والذي يتم تجديده تلقائياً بلا أي مقابل.
غير أن إدارة ترامب ردت مرتين بصورة عسكرية على هجمات الأسد الكيماوية التي استهدفت المدنيين، لتدحض بذلك نظرية أوباما التي ترى بأن معاقبة الأسد في سوريا أو ردعه لن تؤدي إلا إلى حالة من الغزو والاحتلال. ثم إن منحدر التصعيد الزلق أصلاً الذي تقوم عليه فكرة إدارة أوباما التي ركنت إلى السلبية، قد تقوض بشكل أكبر بعد الهجوم الذي شنته روسيا عبر نهر الفرات. في حين قامت إدارة ترامب بتسريع وتيرة المعركة ضد تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا، ما أدى إلى إنهاء دولة الخلافة بصورتها الفعلية. غير أن هذا النصر أيضاً قد تقوض هو الآخر بسبب تلك السياسة الفاشلة. فقد أدى القرار العفوي الذي اتخذته إدارة أوباما بلا أدنى تفكير، إلى عقد شراكة ضد تنظيم الدولة مع "الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الإرهابي" ما أدى إلى نفور تركيا وإبعادها عن ذلك الملف، مع إطالة أمد المعركة ضد تنظيم الدولة، وذلك بعد الاستعانة بميليشيا وليس بأشخاص محترفين لقتال متطرفين مسلحين. ثم بعدما أجرى الرئيس ترامب مكالمة مع الرئيس التركي، وأقدم على "خيانة" حلفاء واشنطن من قوات سوريا الديقمراطية "قسد"، في الوقت الذي أعلن فيه مسؤولون في إدارته بأنه من الصعب على الأميركيين تنظيم ملف استقرار المناطق المحررة من تنظيم الدولة بعد انتهاء القتال.
وهكذا أتت إدارة بايدن وتسلمت السلطة بعد أسبوعين بالضبط من وقوع تمرد مسلح، لتركز بشكل واضح وصريح على الجائحة وتبعاتها الاقتصادية، ولهذا أصبح وضع سوريا ضمن قائمة الأولويات بالنسبة للعمليات الأميركية ضرباً من المستحيل.
وهنا تحاول الأطراف التي يهمها تعزيز الحظوظ السياسية للأسد، ابتداء من الديكتاتور نفسه، وتبذل كل ما بوسعها للاستفادة من انشغالات الإدارة الأميركية الجديدة. فقد ادعى النظام السوري مرات عديدة بأن العقوبات الاقتصادية الأميركية هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن فشل الاقتصاد السوري، لا فساد ذلك النظام وعدم كفاءته ووحشيته. ويدعم هذا التوجه مركز كارتر، الذي يركز على الافتتاحية التي كتبها الرئيس جيمي كارتر في صحيفة نيويورك تايمز عام 2018، والتي ذكر فيها بأن رفع العقوبات عن سوريا شرط أساسي لإنعاش الاقتصاد السوري، كما طالب بالعودة بشكل تدريجي للتعامل مع الأسد على المستوى الدبلوماسي، بالرغم من أنه أصبح أكبر مجرم حرب خلال القرن الواحد والعشرين.
وبلا شك، يتعين على إدارة بايدن مراجعة أمر العقوبات المفروضة على أعوان النظام والمؤسسات التابعة له حتى يضمن عدم وصول أي شيء تفعله الولايات المتحدة لمحاسبة تلك الجهات، لزيادة معاناة الشعب السوري، ولو بشكل طفيف، بعدما تحمل ذلك الشعب ما تحمله نتيجة لفساد الحكم في البلاد. إذ كثيراً ما تتحول العقوبات لأدوات قاسية وفظة تتسبب بوقوع أضرار غير محسوبة، ولكن لا حاجة للإدارة الأميركية الجديدة لأية تعليمات تتلقاها ممن يسعون لترسيخ حكم ذلك الشخص الذي دمر سوريا قبل أي طرف آخر.
وإذا لم تتم مجابهتها مجدداً بصيغة عسكرية من قبل الروس أو من يدعم النظام السوري، فستسعى إدارة بايدن على المدى القريب إلى إضعاف النار تحت الإناء الذي يطبخ فيه الملف السوري، أو استبعاد سوريا بشكل كامل عن فرن السياسة، والاعتماد على تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين وللسوريين الذين يعيشون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وبالطبع يجب بذل كل الجهود في هذا المضمار، مع الشركاء كافة، وذلك لتقديم المساعدات العاجلة لكل السوريين المحتاجين، بصرف النظر عن المكان الذي يعيشون فيه. إلا أن القيام بذلك في المناطق التي يسيطر عليها النظام أمر صعب، وهذا ما اكتشفته هيئة الأمم المتحدة، وذلك لأن أفراداً من حاشية النظام نجحت بالاستئثار بعقود الإغاثة حيث اعتمدت عليها لإثراء نفسها وجمع ثروات لصالحها هي فقط دون غيرها.
إن العمليات التي يجب أن تتم في شمال شرقي سوريا حيث تسعى القوات الأميركية مع شركائها المحليين لمنع تنظيم الدولة من العودة للظهور، يجب أن تخضع لمراجعة داخلية فورية. فقد اقترح دبلوماسي أميركي سابق أن يتم تسليم مهمة محاربة تنظيم الدولة إلى روسيا والنظام، إلى جانب المناطق التي تم تحريرها من تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا، وهنا يأمل المتطرفون الإسلاميون الذين يسعون جاهدين للعودة مجدداً لقيادة ذلك التمرد، أن تصغي الإدارة الأميركية لتلك النصيحة، وذلك لأنهم يعرفون تمام المعرفة بأن دولة الخلافة لن تقوم لها قائمة دون وجود حكم الأسد الفاشل في سوريا، وحكم نوري المالكي الفاشل في العراق.
وهنا كيف لنا أن نصدق بأن الدولة التي أشرفت على عملية ترسيخ الاستقرار بعد الحرب في اليابان وألمانيا لم يعد لديها اليوم من المهارات ما يساعدها على التعاون مع السوريين والشركاء الدوليين لتمكين نظام حكم شرعي محلي من القيام في شمال شرقي البلاد، أي إيجاد البديل الذي طال انتظاره ليحل محل الأسد؟! لهذا ينبغي على وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، بالاعتماد على المعلومات التي تقدمها وكالة التنمية الدولية أن تقوم بمراجعة هذه النتيجة التي خلصت إليها إدارة ترامب. صحيح أن القرار الذي اتخذ في شمال شرقي سوريا والذي سعى لتجنب غياب الاستقرار الكارثي بعد القتال في العراق وليبيا سيكون من الصعب تنفيذه على الأرض، إلا أنه لا ينبغي للكرد السوريين أن يحكموا العرب السوريين، كما لا ينبغي أن يحكم الأتراك الكرد السوريين. بيد أن الأسد ونظامه نجحوا في تحويل سوريا إلى جرح نازف مفتوح وذلك عبر إقناع الأقليات بل حتى العرب السنة أنه لا بديل عن حكم العائلة المتوحشة، إلا حكم المتطرفين الإسلاميين المتوحشين مثلها تماماً. وبالتأكيد كان شمال شرقي سوريا المكان الملائم لإثبات كذب النظام والمدافعين عنه، ولكن أما تزال تلك المنطقة تثبت كذب ذلك الادعاء؟
بالنسبة للهدف الشامل الذي يتصل بالملف السوري، ما يزال الانتقال السياسي الذي ينتج عنه ظهور حكم شرعي في البلاد هدفاً بالنسبة للإدارة الأميركية، بيد أن ذلك لن يحدث خلال الدقائق العشرين القادمة، هذا طبعاً بالمعنى المجازي للكلام. غير أن سوريا في ظل حكم الأسد وحاشيته لن تمثل إلا تهديداً خطيراً على السلم في تلك المنطقة، حيث ستمثل تهديداً بالنسبة لجيرانها، وستعتبر دولة داعمة للتطرف والإرهاب، ومنصة لانطلاق إيران في هيمنتها على المنطقة. وهكذا ستظل سوريا تحت حكم الأسد دوماً تلوح بإفراغ نفسها من كل المضامين الأخرى، حتى ولو، بل على الأخص بعدما يتم إغداق أموال إعادة الإعمار على ذلك النظام الذي لا يشبع.
في الحقيقة ليس هنالك ما يصلح حال سوريا على المدى القريب، إلا أن الخيار الأكثر تدميراً بالنسبة للمصالح الأميركية ولمستقبل سوريا هو أن نفترض أن الأسد قد انتصر وأن نسعى للعودة إلى حضنه اللزج. وهنا من الضروري مواصلة دعم المبعوث الأممي الخاص، إلى جانب التمسك بقرارات الانتقال السياسي التي يقرها المجتمع الدولي كما تجسدت في عام 2012 بالبيان الختامي لمجموعة العمل من أجل سوريا، وفي قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. كما لا بد من مضاعفة الجهود لجمع سجل كامل يدعم بالنهاية عملية محاسبة الأسد وأعوانه بشكل قانوني، بحسب توصيات مجموعة دعم سوريا في عام 2019، إلى جانب إجراء تحقيقات حول جرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا في سوريا.
ويجب على الإدارة الأميركية الجديدة أن تلزم نفسها بفرض عقوبة عسكرية عند تجدد عمليات القتل الجماعي التي تستهدف المدنيين في سوريا أو عند ممارسة نظام الأسد لإرهاب الدولة. ثم إن أنصار النظام كانوا يبحثون لهم عن مخرج في صيف عام 2013 عندما قام الرئيس أوباما بمسح خطه الأحمر بالنسبة لاستخدام الأسلحة الكيماوية، ولقد اعترف كبار المسؤولين لدى إدارة بايدن أمام الملأ بالندم فيما يتصل بالسياسة الأميركية تجاه سوريا أيام إدارة أوباما. ولهذا سيختبر مدى صدق ذلك الندم وكذلك مدى أهمية العمليات التي سيقوم بها ذلك الفريق في حال مواصلة نظام الأسد قتل المدنيين بصورة جماعية، سواء عبر استخدامه للأسلحة الكيماوية أو البراميل المتفجرة، أو أي أداة أو وسيلة أخرى موجودة في مخازنه ومستودعاته بوسعها أن تعبر عن إرهاب الدولة.
إن اتخاذ أميركا أو عدم اتخاذها لأي إجراء في سوريا هو الذي أوعز لخصوم الولايات المتحدة إلى أي مدى بوسعهم أن يتقدموا في أوكرانيا وغيرها وإلى أي مدى بوسعهم أن يستخدموا القوة والشدة في هذا المضمار. إلا أن سوريا لم تكن مرشحة في يوم من الأيام للاحتواء الذاتي، إذ من الممكن أن تذهب عشر سنوات من السياسات الأميركية الخاطئة هناك والتي نجم عنها تفكير وتعقل كبير مع انضباط في تحديد الأهداف ورسم الاستراتيجيات سدى دون أي فائدة ترجى، كما أن الأسد ونظامه ليسوا على وشك تبييض السجون، أو الترحيب بعودة اللاجئين، أو مشاركة السلطة مع أي أحد، بل إنهم ينتظرون بكل صبر وأناة استسلام الغرب الذي أكد لهم من يدعمهم بأنه آت لا محالة. ولهذا لا ينبغي لإدارة بايدن وهي تتجنب تغيير النظام في سوريا بالقوة، أن تفكر باستيعاب نظام الأسد أو التوصل معه إلى أية تسوية.
المصدر: مجلس الأطلسي