لم تكن غيرترود بيل، الفتاة الارستقراطية الإنكليزية المولودة عام 1868، معجبةً بالرجال الإنكليز. فقد كان متوقعاً تماماً ما سيقوله الرجل الإنكليزي أو ما سيفعله في كل مناسبةٍ من المناسبات، كحفلات العشاء مثلاً. وفوق كونهم مملّين وتقليديين، فقد كان الرجال الإنكليز متشابهين أيضاً، كما لو أن واحدهم نسخةٌ عن كل الرجال الآخرين في عموم إنكلترا. لكن هناك في الشرق فإن الرجال العرب مختلفون. فالعربي كان يثير الآنسة غيرترود ويحرّض خيالها، فهو رومانسي، وغرائبي، وغامض وعميق الغور في طبعه وسلوكه.
وهكذا قررت غيرترود أن تصبح مُستعرِبة فسافرت إلى الشرق أواخر العهد العثماني في أوائل القرن العشرين لتعمل موظفةً في الاستخبارات البريطانية وتلعب دوراً كبيراً في رسم خرائط سوريا والعراق والسعودية والكويت، بل وتأسيس دولة العراق الحديثة كما نعرفها اليوم، فكانت غيرترود بمنزلة القابلة التي وُلدت على يديها دول المشرق العربي الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية.
لقد عشقت غيرترود بيل العراق تحديداً ولعبت إلى جوار الملك فيصل ابن الشريف حسين دوراً كبيراً في تأسيس الدولة ورسم حدودها وتحديد ملامح شخصيتها الحضارية، بما في ذلك كتابة تاريخ العراق الضارب في القدم وتأسيس متحف بغداد الأثري العريق. لكن عيون غيرترود بيل كانت لا تُغفل النظر إلى سوريا والاهتمام بها حيث تركت فيها آراء وانطباعات لا تخلو من عِبَر لمن يتدبرها اليوم.
اقترحت أن تعمل بريطانيا على الحفاظ على تلك الدولة ودعت لنقض اتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين. لكن الفرنسيين أصرّوا على تمسكهم بسوريا وما لبثوا أن أشرعوا سيوفهم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى من بيروت للقضاء على سوريا
فقد لاحظت غيرترود في زيارتها الأولى لسوريا عام 1905 أن سوريا "مجرد تسمية جغرافية لا تتقاطع مع أي إحساس وطني في صدور سكانها". ومع ذلك فقد تحمست غيرترود لتجربة الدولة العربية التي ولدت في سوريا عام 1918 بعد الحرب العالمية الأولى، وأثنت في إحدى رسائلها على الحكومة التي أسسها الملك فيصل هناك عقب الاستقلال عن العثمانيين فكتبت تقول:
"إنها تمثل – على الأقل ظاهرياً – المظهر الخارجي لحكومةٍ وطنية. فالتجارة نشطة، والترامواي يعمل، والشوارع مُضاءة والناس يبيعون ويشترون، والحياة تسير على سليقتها". واقترحت أن تعمل بريطانيا على الحفاظ على تلك الدولة ودعت لنقض اتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين. لكن الفرنسيين أصرّوا على تمسكهم بسوريا وما لبثوا أن أشرعوا سيوفهم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى من بيروت للقضاء على سوريا التي ولدت حديثاً، فهرعت غيرترود إلى مؤتمر الصلح في باريس للتفاوض مع الوفد الأميركي في المؤتمر وتشجيع إدارة الرئيس ودرو ويلسون على انتزاع الحق في الانتداب على سوريا من الفرنسيين. لكن الأميركان بقوا مترددين فزحفت القوات الفرنسية من بيروت إلى دمشق بعد المؤتمر، حيث تم نفي الملك فيصل من سوريا في تموز عام 1920 وتحطيم أول دولة عربية مستقلة في الشرق الأوسط. واستسلمت غيرترود للأمر الواقع - مؤقتاً على الأقل - فقد كان زملاؤها الإنكليز مجمعين تقريباً أن لفرنسا مطامع ومصالح سياسية وتجارية في دمشق وحلب منذ الحروب الصليبية ولم يشاؤوا أن يغضِبوا الفرنسيين من أجل سوريا، وخصوصا أن العراق بنفطه وقمحه ووقوعه على طريق الهند هو ما كان يهمّ إنكلترا، وليس سوريا.
كانت غيرترود معجبةً على الدوام بالملك فيصل، ذلك الفارس العربي الطويل الأسمر الذي سحر مبعوثي الدول الكبرى بشخصيته المهيبة في مؤتمر باريس. وزاد انجذاب غيرترود إلى سليل النبي محمد في اللقاءات التي عقدتها معه على هامش المؤتمر. وهكذا عندما انتقلت غيرترود للعراق في وقتٍ لاحق فكرت على الفور في دعوة الملك الطريد لتسلّم عرش الدولة الوليدة في العراق والتي كانت غيرترود منهمكة في رسم ملامحها وتوطيد أركانها. وصار فيصل خيارها الأول كملك المستقبل للعراق بما اكتسبه من خبرة عسكرية في أثناء الثورة العربية، وخبرةٍ إدارية وسياسية عبر حكومته التي وُئدت في سوريا، بالإضافة إلى شخصيته الساحرة والكاريزما العالية التي كان يتمتع بها.
وهكذا عاد فيصل من المنفى عام 1921 وصار ملكاً على العراق حيث لازمته غيرترود كظلّه أكثر من خمس سنين كمستشارة وصديقة، كانت خلالها أقرب الناس إلى عرشه وقلبه معاً. فقد أحبت العراق بصدق ورأت في فيصل والعرب عموماً كل السمات الإنسانية التي تجعلهم جديرين بتقرير مصيرهم وأن يعيشوا في دولهم المستقلة. تقول غيرترود إن العرب يصدرون في سلوكهم عن "تقاليد وآداب ترجع في عراقتها إلى بداية التحضر الإنساني". ووجدت أن البدوي في الشرق لديه من التسامح وقبول الآخر ما لم يتوفر عليه الإنكليزي في ذلك العهد.
وفي زيارتها الأولى إلى سوريا يوم كانت تحت الحكم العثماني وجدت غيرترود نفسها فخورةً أنها أصبحت معروفةً في دمشق وأن الناس هناك لم يلتفتوا كثيراً لكونها امرأة – عكس النظرة الدونية للمرأة في بريطانيا العصر الفيكتوري – وكتبت في رسائلها الخاصة إلى عائلتها تقول منتشيةً: "لقد أصبحت إنساناً في سوريا".
كانت التقارير التي تصل من سوريا تفيد بتوظيف الفرنسيين لمسؤولين فاسدين لا يتقنون العربية ولا يتواصلون مع السكان المحليين أبداً
وفي أثناء وجودها في العراق لم تنس غيرترود سوريا وبقيت هي والملك فيصل يراقبان الوضع هناك وما يفعله الفرنسيون في هذا البلد الصغير الجار. كانت التقارير التي تصل من سوريا تفيد بتوظيف الفرنسيين لمسؤولين فاسدين لا يتقنون العربية ولا يتواصلون مع السكان المحليين أبداً. كما أن الموظفين الفرنسيين لم يكونوا يجرؤون على السير في الشوارع من دون مرافقة الجيش خوفاً من الثوار السوريين. لقد كان فيصل ما يزال يحلم بالعودة إلى دمشق وأن يكون ملكاً على سوريا أيضاً، وكانت غيرترود تدعمه في طموحه.
في أحد الأيام وضعت غيرترود أمام الملك خريطةً جديدةً لسوريا وقد قسمها الفرنسيون إلى كانتونات طائفية صغيرة. نظر فيصل بالخريطة وعلّق بحزن:
"أقسم بالله هذا حرام!"
وحاولت غيرترود التخفيف من حرقته وقالت مطمئنة:
"هناك أمل وحيد لسوريا، وهو أن نحافظ على هدوئنا هنا وننجز مهمتنا بنجاح".
فقد كانت ترى أن نجاح الدولة في العراق سوف يشجع السوريين على الانضمام إليها. وأضافت في عزيمةٍ نادرة وبنبرةٍ لا تخلو من الصدق والوفاء:
"قبل أن أموت، أريد أن أرى فيصل ملكاً على المنطقة كلها، من الحدود الإيرانية إلى البحر المتوسط"[1]
توفيت غيرترود بيل عام 1926 في العراق ودُفنت في بغداد.
[1] جميع الاقتباسات الواردة في المقال مأخوذة من كتاب:
Wallach, Janet. The Desert Queen: The Extraordinary Life of Gertrude Bell; Adventurer, Adviser to Kings, Ally of Lawrence of Arabia. New York: Anchor Books, 1999.