"ولكن أكثر ما هو إثارة للدهشة هي تلك الشهادة التي أدلى بها مسؤول فلسطيني رفيع المستوى لكاتب هذه السطور، فهذا المسؤول القريب من ياسر عرفات أكد أنه اطلع على محضر اجتماع في إفْران بالمغرب بين الملك الحسن الثاني وشمعون بيريز في 23 تموز 1986.
بيريز: يا صاحب الجلالة أشكرك لاستقبالي وأهنئك على شجاعتك، ولكن ألا تخاف ردود فعل سلبية جداً من البلاد العربية؟
الملك الحسن: لا... لا أظن ذلك باستثناء... ربما سوريا...
بيريز: آه.. إذا كان الأمر يتعلق بسوريا فقط بسوريا فلا تهتم بالأمر نحن لدينا طرقنا لإسكاتهم!
الملك الحسن: آه.. وكيف ذلك؟
بيريز: لقد عملنا اتفاقات مع السوريين على أعلى مستوى.
الملك الحسن: هل تستطيع أن تذكر لي مع من؟
بيريز: لا، لا أستطيع كشف ذلك، ولكن يمكنك أن تثق بي.
الملك الحسن: اتفاقات شفهية أو خطية؟
بيريز: مبتسماً عند إجابته: الاثنان معاً.
هذه الأدوار المزدوجة التي يلعبها النظام السوري، وربما يثبتها لنا المؤرخون في المستقبل، تفسر بدون شك كتمان النظام السوري لدى معرفته بأن حلفاءه الإيرانيين قاموا باتصالات سرية ليس فقط مع الولايات الأمريكية المتحدة، ولكن أيضاً مع إسرائيل!".
يستطيع هذا المقتطف الصغير من كتاب "سوريا في عهدة الجنرال الأسد" تفسير سبب بقاء نظام الأسد حتى اليوم، رغم الجعير الذي ملأ الآفاق في عهدي الأب والابن عن المقاومة ضد إسرائيل، والتصدي والصمود، والكرامة العربية.. وغيرها الكثير من الشعارات الرنانة، التي كان ومازال نظام الأسد يعتاش عليها، لتغطية عدم شرعيته من البداية، ثم إجرامه الذي لا يوصف بحق سوريا بلداً وشعباً.
خوف المؤلِّف من البطش
الكتاب الذي صدر عام 91 من القرن الماضي باللغة الفرنسية لمستعرب فرنسي تحت اسم دانييل لو غاك، يرصد عبر ثلاثمئة وعشرين صفحة حياة حافظ الأسد منذ انقلاب حزب البعث عام 63 حتى عام 91، ورغم أن الكاتب فرنسي، ولكن الخوف من بطش الأسد ونظامه جعله يوقع الكتاب باسم مستعار، ويعمل على تخفية اسمه الحقيقي، فمصير مواطنه ميشيل سورا ونهايته المأساوية مازالت حاضرة في الأذهان، الذي كان كذلك يكتب باسم مستعار، ولكن أذرع الأسد الاستخباراتية الطويلة استطاعت الوصول إليه، وتصفيته عبر ميليشيا حزب الله اللبناني.
الباحث الذي توفي قبل نشر الكتاب باللغة العربية من قبل دار مدبولي عام 2006 وثق بدقة وأمانة علمية مصادر كل خبر وكل حدث من شهوده ورواته، وقد ترك الناشر المراجع باللغة الفرنسية في آخر الكتاب كي يعود لها من شاء أن يتأكد.
جنرال محبوب غربياً رغم إجرامه
لو غاك وفي معرض تمهيده للكتاب يستعجب ويستغرب من المديح والتقدير الحسن الذي يُكال لحافظ الأسد رغم أن نظامه يتصدر الأنظمة الأكثر قسوة في العالم، ولكن لو عدنا إلى مقدمة هذه المقالة لظهر لنا السب وزال العجب، ويذكر الباحث الكثير من القادة المعجبين وعلى رأسهم وزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر، اليهودي بل الصهيوني والمؤيد بشدة لإسرائيل!
ويسرد الكتاب الكثير من الجرائم والاغتيالات في لبنان، والمجازر التي ارتكبها الأسد الأب في سوريا من جسر الشغور إلى حلب
الكاتب فرنسي، ولكن الخوف من بطش الأسد ونظامه جعله يوقع الكتاب باسم مستعار، ويعمل على تخفية اسمه الحقيقي
وسجن تدمر، وليس انتهاءً بمذبحة حماة المروعة، والصمت المتواطئ للدول الغربية لا يمكن تبريره بمصالحها في اقتصاد سوريا، فسوريا ليست هي العراق ولا العربية السعودية، وإنتاجها البترولي لم يزد عن عشرة ملايين طن من النوع الوسط الذي يجب خلطه بمواد عديدة مستوردة أكثر منه خفة".
فرنسا ودعم الأقليات
الكاتب الذي يبدو وكأنه يدافع عن القومية العربية، انتقد الفرنسيين والبريطانيين الذين كذبوا على العرب، الذين قاتلوا إلى جانبهم ضد الدولة العثمانية، واعدين العرب بالاستقلال، " فما كان ببساطة من هؤلاء الفرنسيين والإنجليز أن حلو ببساطة مكان العثمانيين"، مشيراً إلى أن فرنسا دعمت وفضلت الأقليات مما أسهم في خلق جو من الريبة والشك بين السوريين، إلى أن وصل حافظ الأسد الذي هو من أقلية لا تتجاوز العشرة بالمئة إلى الحكم في سوريا.
ميكافيلي تاريخ سوريا
يسهب الكتاب في الحديث عن دخول حافظ الأسد إلى لبنان، حاملاً "سيفين حاميين مختلفين في آنٍ واحد" وكيف أنه دخل لنصرة اليمين المسيحي اللبناني المتحالف مع إسرائيل، ضد الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع حركة فتح، العدو الأول لإسرائيل في حينها، وكيف عمد إلى ضرب اللبنانيين ببعضهم البعض والفلسطينيين ببعضهم البعض، ساعياً دائماً لإضعاف حركة فتح، وتقوية خصومها من الصاعقة إلى الجبهة الشعبية القيادة العامة وجماعة أبو نضال، وما ذلك إلا ليضع الورقة الفلسطينية في جيبه، ويرمي بها في بازارات السياسة كلما ضاق عليه الخناق في مرحلة ما، وهو ما كان يعجز عنه في ظل وجود زعيم محنك كياسر عرفات" ولا يزعج الرئيس السوري التقاتل بين الفلسطينيين، وسقوط مئات الضحايا وتدمير القرى اللبنانية، كما لم تزعجه المذابح التي اقترفها أصحابه في حلب وتدمر وحماة وغيرها (الأسد هو الميكا فيلي الوحيد في تاريخ سوريا)"، لا هم له سوى البقاء في السلطة وتوريثها، وهو حتى عام 91 كان أكثر الحكام بقاءً في السلطة في تاريخ سوريا كله، ويجيد في سبيل ذلك اللعب بأوراق السياسة الخارجية، في حين "أجبر مكرهاً على الاهتمام باطراد للسياسة الداخلية".
سياسة داخلية أدت للتصحر
سياسة داخلية كانت السبب في تقلص مساحة الأراضي الزراعية، رغم قانون الإصلاح الزراعي الذي سنه البعث، إلا أن مئات آلاف الفلاحين هجروا قراهم والتحقوا بالمدن، وعشرات الآلاف قصدوا الخليج العربي بحثاً عن فرصة عمل، "والمعدمون من العلويين.. تحولوا بدورهم نحو الجيش، وهكذا جاؤوا – ويا للمفارقة- لتقوية جهاز القمع" في ظل اقتصاد اشتراكي بالشعارات ومتوحش في التطبيق.
حافظ الأسد الذي كان مهتماً كل الاهتمام بصورته كرئيس ورع، كلف قصره على جبل قاسيون 23 مليار ليرة سوريا، فأجهزة المراقبة التي تم استيرادها من أمريكا كلفت 155 مليون دولار!، فضلاً عن استيراد أشجار من اليابان، كما أنه ترك الحبل على غاربه لكل أتباعه كي يعملوا نهباً وسلباً في سوريا، وحتى عندما كان وزيراً للدفاع وكان أخوه رفعت يعمل على تهريب الآثار في عهد الرئيس نور الدين الأتاسي، قام بالدفاع عنه وتبرئته.
الربط بين العلويين والصليبيين
الكاتب يربط بين ظهور العلويين والصليبيين، فيقول إنهم بعد هزيمة الصليبيين انكفأ العلويون إلى جبالهم، ولكنهم
حافظ كان يخصص من وقته لمقابلة زواره الذين كانوا من العلويين دون غيرهم، في حين كان رئيس وزرائه ينتظر ستة شهور لمقابلته
ما نزلوا من جبالهم إلى بعد 700 سنة، حينما عاد "الصليبيون العصريون ليساعدوا في يقظة العلويين"، ويقصد بهم الاستعمار الأوروبي الحديث، والكلام حسبما يرى الكاتب المستعرب.
بعض التناقضات في الكتاب
المتمعن فيما بين السطور في هذا الكتاب يعتقد أن الكاتب الذي وصل إلى نتائج لو بقي حياً إلى يومنا هذا لغير رأيه كلية، رغم أن ما يورده الكاتب في بعض الأحيان ضمن هذا الكتاب يدحض بعضه البعض، أو يناقضها على أقل تقدير، ومنها أن مصلحة الشعب العربي ومصلحة سوريا كان لها في نظر حافظ الأسد المقام الأول قبل مصلحة العلويين، ولكنه في مكان آخر ذكر كيف أن حافظ كان يخصص من وقته لمقابلة زواره الذين كانوا من العلويين دون غيرهم، في حين كان رئيس وزرائه ينتظر ستة شهور لمقابلته، ويذكر كيف اغتنى الضباط العلويون من مال الفساد، وكيف تحسنت حال الفلاحين، الذين ينحدر حافظ منهم، بينما تضور الشعب السوري جوعاً.
والنقطة الأخرى التي يراها الكاتب هي أن حافظ الأسد كان وحدوياً، من دعاة الاندماج مع سوريا الوطن الأم، ولم يكن انفصالياً كما جده الذي أرسل رسالة للفرنسيين بذلك، ولكن هذا الكلام لا نستطيع نفيه ولا تأكيده إلا عندما نرى حافظ وابنه خارج السلطة، فهل سيبقى خطابهم وحدوياً كما كان، أم أنهم سيطالبون بالانفصال عن السنة المتعصبين!؟
العلوية والديانات السامية
وبالحديث عن العلوية كديانة يقول دو غاك إن العلوي سواء كان فقيراً أو غنياً فإنه تفصله عن غيره حدود غير مرئية من خصوصيات الشرق الأدنى، "العلوي مقتنع إلى حد ما بصورة لا شعورية أنه ينتمي إلى أناس محتقرين لأنهم كانوا مضطهدين لفترات طويلة"، وهذا ما يفسر التخندق الكبير خلف نظام بشار الأسد، حتى عندما كانت الثورة في أنصع صورها.
وينقل الباحث عن (دوسّو) خبير كبير بالمعتقدات العلوية " الباطنية" أن دينهم الشعبي "مرتبط بأقدم الديانات السامية في تفانيهم المبهم غير الشخصي، والذي لا وجه فيه للحضور الإلهي"، وفي أعياد الشيعة التي يحتفل بها العلويون لا وجود لجلد الذات، الذي يحل محله شرب العَرَق الممتاز، وعندما جاء الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى إلى سوريا، حاولوا إقامة محاكم شرعية للعلويين لكنهم فشلوا، فجلبوا لهم قضاة شيعة من جنوب لبنان، " وكان هذا تذوقاً مسبقاً للتعاون المستقبلي بين نظام الأسد والحركة الشيعية اللبنانية أمل".
حافظ والعشائرية
ويفصل الباحث عن العشائر العلوية كالكلبيين والحدادين والخياطين والمتاورة، التي ينتمي إليها حافظ الأسد، وللمفارقة فإن أغلب الضباط الذي كانوا محل ثقته هم من ينتمون إلى هذا العشيرة، كاللواء علي دوبا رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، واللواء علي أصلان معاون رئيس الأركان ورئيس مكتب العمليات العسكرية، واللواء علي صالح قائد القوات الجوية، واللواء محمد خولي رئيس المخابرات الجوية ومستشار حافظ الأسد، "والحقيقة أن علاقة حافظ الأسد بطائفته الأصلية هي علاقة مصلحة، وكان من المستحيل عليه الاستمرار في حكم سوريا لولا دعم منطقته ومسقط رأسه له".