سوريا بين الوهم والحقيقة

2023.02.01 | 11:52 دمشق

سوريا بين الوهم والحقيقة
+A
حجم الخط
-A

ليس درساً في الفلسفة أو علم النفس؛ فأي قاموس أو موسوعة يوفّر للقارئ ما تعنيه عبارات هذا العنوان؛ لكن الواضح أن الخلط بين الوهم والحقيقة يرافق الإنسان منذ بدء الخليقة؛ فهذا هو صموئيل بيكيت يقول: "... لا نكاد نولد، حتى نموت؛ وما بين الولادة والموت، نعيش في ظل واقعٍ هو وهمٌ، بل وهمٌ أشبه بالواقع".

ومن هنا، يبدو أن الموت والحياة هما الحقيقتان الأوضح للعقل البشري؛ وما عداهما يصعب البتُّ بتصنيفه، نظراً لتدخل عوامل لا تُحصى في العملية الوصفية التصنيفية. وإذا كان "الخيال العلمي" المشوب بالكثير من "الوهم" هو المَصْنَع الأول لأهم الاختراعات البشرية، وآخرها وأهمها "الذكاء الصنعي"، فالخلط بين "الوهم" و"الحقيقة" يغدو من أهم سمات الحياة البشرية الحاضرة؛ فما بالك عندما يتعلق الأمر بقضية كالقضية السورية التي تشبه كومة من الخيوط المتشابكة سياسياً واقتصادياً ونفسياً واجتماعياً وعسكرياً…الخ؟

توهم "نظام الأسد" مثلاً أن هناك استحالة في قيام السوريين بثورة أساساً؛ وعندما تحول الوهم إلى حقيقة، قاتلَ بكل صنوف الأسلحة، وبينها المُحَرّم. استغاث بإيران وروسيا وإسرائيل وأميركا والعرب وبالمخابرات العالمية. توهّم النصر؛ وتصادمت أوهامه وحقائقه بأوهام وحقائق انتفاضة السوريين. لم يكن هناك وهمٌ أكبر من أن سوريا لن تكون دون الأسد أو شبيحة البلد. وهذا يشبه تماماً توهُّم السوريين عندما خرجوا لإسقاط طغمة مستبدة، وصعقتهم حقيقة تقول إن عليهم إسقاط جملة من منظومات الاستبداد.

مهما طالت خيوط الوهم تبقى قصيرة، ليخرج المتوهمون من متاهة القوقعه التي نسجها عقلهم أو استوردها قسرا أو أُجبِرَ على تبنيها والدفاع عنها

نتصوّر أنه كما لا يختلف الناس على لوني "الأسود والأبيض"، لا يختلفون على "الوهم" و"الحقيقة"؛ إلا أن الحياة وتشعباتها لا تسمح بالتصنيفات المطلقة. فمهما طالت خيوط الوهم تبقى قصيرة، ليخرج المتوهمون من متاهة القوقعه التي نسجها عقلهم أو استوردها قسرا أو أُجبِرَ على تبنيها والدفاع عنها.

مع انطلاق ثورتهم، توهم السوريون لفترة بسيطة بالمقاومة سلمياً وبالورد وبالكلمة، ثم بالسلاح وبالسياسة وبالتفاوض وبالقرارات الدولية، بأن نصرهم محقق؛ ونشأ وهمٌ سوّقه معارضون بأن الأسد ساقط خلال أيام وشهور؛ ثم توهموا بالنصر الإلهي، آملين أن يتحول وهمهم إلى حقيقة؛ فاختلط الاثنان أكثر؛ فمنذ بدء الثورة توهمت المعارضة أنها أنجزت تسعين بالمئة من الثورة، وبدأ رموزها يتسابقون ويرسمون الخطط لتقاسم المناصب وكيفية إدارة الدولة ما بعد النظام.. والحقيقة أنها والدول التي تدعمها فشلت في تحقيق الهدف، وحتى بتوضيح ما هي هذه المعارضة، وما هو مشروعها.

معروف أنه بقدر ما أخذت الثورة بعداً دينياً، بقدر ما جرى تشويهها بمعول الإرهاب، حيث توهم البعض بأنهم يقومون بثورة دينية؛ وتوهم آخرون بأن الغرب يدعم حركات التحرر من الطغيان، وأن ما يُسمّى "العالم الحر" سيقف مع قضيتهم؛ لتتضح الحقيقة بأن "العالم الحر" كذبة كبرى، وحالة مصلحية لا تعرف الأخلاق، بل تتاجر بمصير الشعوب؛ وما هي بحُرَّةٍ أساساً. وصنفٌ ثالثٌ توهم بأنه يمتلك نُخَباً وطنية؛ ورابع -تحديداً الحركة الإسلامية- توهمت بأنها وصية على الشعب وثورته؛ وخامس بأن المال السياسي دعمُ محبين. وفي المحصلة تم خلق روايات مشوهة، قد تبدو في ظاهرها إيجابية لا تشاحها بالوهم؛ ولكن نتائجها سلبية وكارثية عند اتضاح حقيقتها. ومن هنا، بات الجميع لا يميّز بين الوهم والحقيقة، بل أقرب إلى عالم الأوهام.

إذا كان هناك من أداة لإنجاح المؤامرة، فالنظام كان تلك الأداة التي حذّر منها، وكان أداتها الفاعلة

من جانب آخر، كانت "المؤامرة الكونية على سوريا" الوهم الأكبر، الذي اشتغل عليه النظام، وفصّل به؛ ومفاده أن العالم يريد تدمير سوريا. ذلك فسح له في المجال للتدمير بحدود تعجز أي مؤامرة عن القيام به. والمفارقة أن ذلك الوهم الذي سعى النظام إلى زرعه كحقيقة، تحوّل فعلياً إلى حقيقة؛ ليتبيّن أنه إذا كان هناك من أداة لإنجاح المؤامرة، فالنظام كان تلك الأداة التي حذّر منها، وكان أداتها الفاعلة. الأمر ذاته ينطبق على مسألة "الإرهاب"، التي استثمرها "نظام الأسد" أيما استثمار، ليقدّم نفسه "ضحية للإرهاب"، وهو حقيقة "الأسنس" والمغناطيس للإرهاب.

في القضية السورية، تتفوق قائمة الحقائق على قائمة الأوهام؛ فالقصف، والدمار، والكيماوي، والبراميل، والمجازر، والاعتقال، والابتزاز، والفقر، والإفقار، واللجوء، والضياع، والحنين، وميليشيات الخامينائي وحسن نصر الله، ومئات أصناف الأسلحة البوتينية، وأكثر من مليون شهيد، وسيطرة روسيا وإيران على مقدرات سوريا، كلها حقائق تفقأ العيون، وليست أوهاماً.

وفي الوقت ذاته؛ مَن يعتقد أن قانون قيصر، وقانون الكبتاغون، وتقرير لجنة الكيماوي الأخير باستخدام "نظام الأسد" للسلاح الكيماوي، قد انتقلت من طور الوهم إلى طور الحقيقة، يكون واهماً. إنها تصبح حقائق عندما يرى السوريون ترجمة مفاعيلها على الأرض. وتُتَرجَمُ المفاعيل على الأرض إلى حقائق عند تمكين هذا الشعب من تحقيق الخلاص بيده، طالما تلك المنظومة المستبدة لم تتأثر بالعقوبات المفروضة، وعندما يكون السوريون يداً وإرادة وتخطيطاً وفعلاً واحداً تجاه اجتثاث هذا الوباء الاستبدادي.