صدر كتاب "سوريا تحت الإدارة العثمانية والانتداب الفرنسي 1908-1938" عن مركز أتاتورك للبحوث (طبعة ثانية، 2004) للمؤرخ والأكاديمي "عمر عثمان أومار"، في ستة فصول ومدخل توزعت على 500 صفحة من القطع الكبير، ويعدّ من الدراسات التركية النادرة حول سوريا. وسنسعى من خلال هذا المقال إلى بيان أجدرية الكتاب في بيئته التركية وعربيًا.
بين يدي الكتاب
اختلفت أقسام الكتاب في حجمها أو حاجتها لبيان أطروحة كل منها، فكان التركيز على الفصل الرابع تحت عنوان "جبهة سيناء- فلسطين في الحرب العالمية الأولى وجمال باشا" أضخم فصول الكتاب، بينما كانت الفصول الأول والثالث أقلها حجمًا كون الأول ركّز على التقديم لبيان القومية العربية تحت عنوان "نهوض وولادة حركة الاستقلال العربي في سوريا".
بينما قفز في الثالث إلى وضع سوريا في الشهور الأخيرة فقط من عهد عبد الحميد وبداية الاتحاديين، والتي هي محددة من الأصل في فترة دراسته، مثل هذا الكتاب، والذي هو أطروحة دكتوراه (عام 1999) في حقيقة أمره، والنادر في البيئة التركية عادة ما يكون جاء ليغطي النقص في الدراسات حول العالم العربي، لذلك فهو قادم في لغة تعريفية بالمجهول في الأكاديميا التركية، قد تكون كذلك "أبوية" بمعنى أنها مستظهرة لنوع من الأيديولوجيا التاريخية المتحيّزة لطرف "على" آخر.
قومية من رحم المؤامرة؟
بدا وكأن الكاتب يتبنى موقفًا فيه جانب من نظرية المؤامرة، ليس بالتمام، ولكن في طرحه عدم دقة نسبة ولادة القومية العربية إلى النفوذ الفرنسي والإنكليزي وتحريضاتهما وحملات التبشير يصعب قبول هذا في تاريخ القوميات، إذ أن القومية العربية وغيرها بمفهومها العام لم تُختلق في القرن التاسع عشر. ولكنها أينعت بفعل عوامل تاريخية.
هو اعتبر أن "العرب" -بتعميم- عاشوا تحت إدارة الدولة العثمانية كـ"إخوة" لهم حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولكن الحقيقة أن الفترة التاريخية السابقة مليئة بالفوضى والتمردات، وعبّر عن إدارة الدولة العثمانية بـ"الأتراك"، وكأن الإدارة العثمانية كان يحكمها الأتراك فقط. هكذا توصيف، أضف إليه استخدام كلمة "إخوة" فيه نوع من التعميم الذي يتحرّز منه الأكاديمي بطبيعة الحال.
الجمعيات العربية بين مطرقة السلطان وسندان الاتحاديين
أشار "أومار" في حديثه عن تأسيس الجمعيات العربية، منذ نشوء جذورها من أنشطة تعزيز العربية والعروبة بعد منتصف القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، في حالتها الصلبة الظاهرة أو السرية الخفية تحت المسميات الأدبية، أنها تعرضت للقمع بمواجهة كل من سلطتي عبد الحميد الثاني والاتحاديين.
كان السلطان يواجه هذه التجمعات والجمعيات وحتى الأفراد بدعاية "الجامعة الإسلامية" وفي بعض الأحيان بنوع من قومية وطنية "منعًا لشقّ العصا"، تلاه في عهد الاتحاديين، وبالخصوص بعد الفترة التي كان ثمة انفتاح فيها على كافة الطوائف، أي قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها، كانوا يواجهونهم بسلاح القومية المتشددة، وبين هذا وذاك كانت تختلف السرية والعلانية في طبيعة التنظيم.
رغم ذلك أشار "أومار" بعد عام 1908 إلى اختلاف مثل هذه الجمعيات والأفراد في توجهاتها السياسية، مرة لجانب تركيا الفتاة ضد السلطان، وكذلك لجانب "جمعوية" السلطان ضد ضيق الاتحاديين، وأخرى إلى جانب حزب الحرية والائتلاف ضد حزب الاتحاد والترقي، ورابعة كأحزاب انفصالية داعية إلى لامركزية من جهة ومثلها إلى استقلال وإدارة خاصّة، هذا ولم تنجُ هذه التيارات والتحركات من معاداة بعضها البعض طبعًا.
جمال باشا وولاية سوريا
قد يسأل قارئ لهذا الكتاب، ما دام أنه "أطروحة" تحدّثت عن "سوريا والعثمانيين وفرنسا" فهل احتوى على مصادر عربية أو فرنسية؟ بالطبع لم يحتوِ إلا على النزر اليسير منها من الذي يرفع العتب به عن كاهله.
الكماليون لم يكونوا بريئين في دعم المقاومة السورية، فهم فضّلوا الفرنسيين كـ"حليف" مستقبلي يُفاوض على الورقة السورية على أن يحاوروا من يعمل تحت ظلّ الإنكليز
عندما يأت للكلام حول جمال باشا، والذي يشتهر بالسفّاح في التاريخ الشفوي العربي، يبدو وكأنه يتّخذ العذر له ويبرر طريقة حكمه وسلطته على سوريا، يقابله "تأشيره" لنوع من استحقاق العقاب لمن انضوى تحت سلطته من العرب ومثقفيهم نتاج الحاصل آنذاك.
لفت انتباه كاتب المقال جملة استخدمها في تقديمه للحديث حول تاريخ سوريا العريض، إذ قال:"حكمت العديد من الدول سوريا عبر التاريخ"، وهذا يعرّي شيئًا من ذهنية مؤلف الكتاب عندما أراد تجميع فصوله على شكل أطروحة، أو ربما تكون أرجوزة، أنّه كتب التاريخ من أعلى أي تاريخ سياسيّ لا اجتماعي أو من قاعدة الهرم، ولو أنّه كتب عبارة "أن سوريا أثّرت في الدول التي حكمتها عبر التاريخ وتأثرت بها" لفهمنا أنّه يفكر بطريقة مختلفة، فقط، في حال طبّق ذلك عمليًا.
مخلصو المقاومة السورية بين نيران الاستغلال الإقليمي وأنياب الإمبريالية
ولكن يتبادر إلى الذهن سؤال: ما الذي قدّمه هذا الكتاب؟ وهل هو بهذا السوء؟ في الحقيقة يمكن الولوج إلى جواب هذا السؤال من باب الحديث عن فائدته للتأريخ العربي، إذ إن استعماله لأرشيف وزارة الدفاع التركية جلّى مجريات التعاون بين قادة المقاومة السورية وقوات التحرير الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال.
يخصص "أومار" في فصل الكتاب السادس تحت عنوان "سوريا في عهد الانتداب الفرنسي" ضمن قسمه الثالث الحديث عن "التعاون بين القوميين العرب والقوات الوطنية التركية في مناوشة الفرنسيين" عن أمثلة من هذا التعاون؛ يذكر ممن كانت لهم "سمعة حسنة" بين القوات التركية إبراهيم هنانو وبدري بك وعاصم بك والشيخ صالح العلي.
وعلى صعيد آخر ذُكر الشيخ حاجم (حاتشم) باشا كما أورده المؤلف باللفظ التركي، ولعله تصحيفٌ بدويٌّ لحرف الكاف بحيث هو حاكم باشا بن مهيد شيخ قبيلة عنزة في الرقّة كونه كان "يعمل لمن يعطيه المال الأكثر وكان متقلب الولاءات". شخصية أخرى كانت لديها سمعة غير محببة لدى "الأتراك" هو الأمير عبد الله بن الشريف حسين بن علي.
كل هؤلاء تواصلوا مع القوات الوطنية التركية، وكان لكل منهم مطالب، لم تخل المجموعة الأولى من تنسيق على أكبر الصعد، وتقسيم مناطق المقاومة السورية إلى قطاعات لدحر الفرنسيين، وإمدادهم بالسلاح والمال.
ولكن المؤلف يورد فهمًا غريبًا في طرحه لسياق الأحداث، فهو يعبّر عن قوات المقاومة التركية بلفظ "قواتنا" بنون الجماعة، وكأنه محارب في صفوفهم، فما هي علاقة المؤلف بالمقاومة السورية أو التركية حتى! أضف إليه أنه اعتبر المناطق التي تسكنها "القبائل التركية" في سوريا قد حققت نجاحًا في جبهات المقاومة السورية ضد الفرنسيين، فقط لأنهم مقيمين فيها، ولم يوضّح مقصده سوى أنهم من "الأتراك"!
كذلك لم يفسر هدف القوات الوطنية التركية ومُرادها من قبول دعم المقاومة السورية، يعني لم يُظهر جهازه النقدي في أطروحته السردية، ولكن القارئ يفهم من وثائق أرشيف وزارة الدفاع التركية وجلسات مجلس الأمة التركي أن القوات الوطنية التركية كانت تسعى لإظهار عضلاتها أمام الفرنسيين في كل مكان حتى تحمي حدودها.
وأيضًا كانت تخاف من سبق الفرنسيين إلى تهييج القبائل نحو الداخل الأناضولي؛ لذلك سارعت لقبول أي دعم لهم، ولكن بشكل محدود وبما يتوافق مع مقدرات الوضع الراهن في الأناضول، بالأخص أنها توجّست من "حاكم باشا العنزيّ" الذي لم يعرف كيف يخاطب الكماليين بطلبه دعمهم "وفاءً للعثمانيين وولاءً لهم (1923)! طالبًا الأموال الكثيرة" وهو الذي لم يفهم أن الكمالين باتوا يعملون ضد الحكومة العثمانية أصلًا! كذلك لم يظهر أن الكماليين (قادرين؟) يسعون لتحقيق السوريين نيل استقلالهم أي أنهم غير قادرين على الوقوف لجانب السوريين إلى أملهم وغايتهم الأخيرة.
وبالنسبة للأمير عبد الله، فكانت قيادة القوات الوطنية التركية تنظر له على أنه "موظف" الإنكليز، وليس ندًا لتلك القوات التركية، والذي يدعم المقاومة السورية من جنوب سوريا بإرادتهم كونهم على خلاف مع الفرنسيين، حيث طلب عبد الله من مصطفى كمال التشاور والحديث، ولكن مصطفى كمال لم يقبل هذا.
هذا نتاج أن الكماليين لم يكونوا أيضًا بريئين -هم الآخرين- في دعم المقاومة السورية، فهم فضّلوا الفرنسيين كـ"حليف" [مستقبلي يُفاوض على الورقة السورية] على أن يحاوروا من يعمل تحت ظلّ الإنكليز. هذا يتجسد في معاهدة أنقرة المعقودة بين الأتراك والفرنسيين، رغم هذا استمر دعم الأتراك للسوريين كورقة ضغط على ما يبدو في سبيل ضمان مجريات الأمور.
لم يكن دعم المقاومة السورية من طرف القوات التركية مستمرًا، فهو بين عامي 1919-1921 كان مشهودًا، وكما بيّن "أومار" فإنه "مع أيلول 1921 عندما انسحبت القوات النظامية من حلب ونواحيها فإن "المقاومة العربية باتت في حال فجيع أصابها الفلج"، لذلك فإن الدعم كان مرهونًا بما يحصل في الجبهات التركية الواسعة والعصيبة هي الأخرى.
بديهيات الكتاب ومعضلة الترجمة الأكاديمية
طرح الكتاب الكرونولوجي (تراتبي ميّت) للأحداث غير المتعلق بالدرجة الأولى بالمصادر التركية، بل بالتحديد بالمصادر العربية، وضمن المسألة المرتبطة بالجغرافيا السورية، صحيح أن تواجد ما يتعلق بسوريا في الأرشيفات العالمية هو أساسي كذلك يتوازى في أهميته مع ما في المصادر العربية، ولكن معرفة لغة مصادر الموضوع ذي التعلق لا تغيب أهميته عن بال أي باحث جادّ.
لذلك فهناك عدة أمور متعارف عليها في الأدبيات العربية حول التاريخ السوري، تكثر في العديد من المصادر والأبحاث، لم يستقها المؤلف من مصادرها كما تقدّم، إلا من كتب قليلة جدًا في مصادر عربية الأصل وأخرى مترجمة، هي مثل حديثه عن الجمعيات العربية في فصولها الأول " نهوض وولادة حركة الاستقلال العربية في سوريا".
والثاني "الجمعيات العربية المؤسسة في سبيل الاستقلال وجهودها"، وما جاء في الفصل الخامس تحت عنوان "سوريا في عهد ملكية فيصل"، وأيضًا في القسم الرابع من الفصل السادس "جهود القوميين العرب في نيل الاستقلال والموقف الفرنسي منه" بعد الحرب العالمية الأولى وحتى قبيل الثانية.
هذه المواد أتى سرده فيها عام جدًا، ولكنه أظهر بالفعل اطّلاعه على تعقيدات الجمعيات العربية وفهمه لها، ومراحل انتقالها من الدعوة السرية وحتى العلنية مع انقلاب 1908 المشروطي، وبعده حينها اشتد ساعد الاتحاديين على هذه الجمعيات ليعاودوا العمل السريّ.
استمر الكتاب في الحديث عن تراتبية الأحداث من بعد حرب ميسلون حتى قبيل الحرب العالمية الثانية (1936) بشكل رتيب حتى النهاية. ومع ذلك يبقى التساؤل قائمًا؛ لماذا غاب هكذا كتاب مدّة مديدة عن حقل الترجمة العربية؟ ألم يكن بالأحرى إقحامه على علّاته في الساحة العربية ليؤثر بدوره على مسيرة الكتابة الأكاديمية والبحثية فيها؟ ربما.