يعرف البروفيسور وائل الحلاق الدولة الحديثة بأنها " نتاج ظرف تاريخي في المقام الأول وليست مفهوما تجريديا متعاليا.. والتوجه لبنائها كان في القرن الثامن عشر ليكون وجودها مرتبـطا بالعقلانية والتقدم والحضـارة".
الدولة كقدر
ولدت الدولة الحديثة بعد أن انتهت الحروب الدينية في أوروبا ونشأ نظام جديد للدول، أساسه قيام كيانات غير دينية أو عصبية، عرفت فيما بعد باسم "الدولة الحديثة" التي ستعمم في أنحاء العالم، وتصل لمنطقتنا العربية فعلا أوائل القرن العشرين وتتحول النظم السياسية العربية التقليدية بعد انهيار الخلافة العثمانية إلى دول حديثة بحتمية فرضها الاحتلال الجديد (الاستعمار الغربي)، دون المرور بسيرورة ثقافية واجتماعية، وتتشكل الدول بمحددات معلبة (الإقليم – السكان – السلطة – الاعتراف والعلاقات الدولية..)، كان هذا التحول نقلة أو طفرة اجتماعية أصابت المجتمعات العربية.
تم تحديد البشر وتعريفهم حيث وجدوا في "الإقليم" المحدد ليشكلوا "السكان"، بعدها ستنتج هذه الشعوب التي تعيش في الأقاليم "أنظمة سياسية" تختارها أو تفرض عليها غالبا وتضع سيادتها ودستورها وترسم علاقتها فتكون دولة وفق العرف الجديد: كل دولة لها إقليم بحدود معروفة، وشعب يعيش فيه، وسلطة تدير شأنه وتتحدث باسمه، لندخل القرن العشرين ونحن سكان دولة اسمها سوريا نحمل جنسيتها وهويتها كقدر.. سعيا للتقدم وبناء حضارة.
تم تحديد البشر وتعريفهم حيث وجدوا في "الإقليم" المحدد ليشكلوا "السكان"، بعدها ستنتج هذه الشعوب التي تعيش في الأقاليم "أنظمة سياسية" تختارها أو تفرض عليها غالبا
هذا المجموع المشكِّل للدولة للسورية سيدخل تحت الاحتلال فتكون "الدولة المشكلة المحتلة". الاحتلال الفرنسي الذي سمي لتجميله: انتدابا أو استعمارا، وهو بالحقيقة ليس سوى تأهيل للانفكاك عن المحيط وتجهيز لقبول الحدود الجغرافية والتاريخية في منطقة أصبحت فجأة تعج بالدول.
منتصف القرن العشرين وبعد أن فرغنا من زمن الدولة المحتلة وفرغ الاحتلال منا، تفرغنا لحكم أنفسنا، سيُكثر من وصل لسدة حكم الدولة من العبث بمصائر الشعب وسنشهد صراعات على السلطة لم تنته، ومع كل جديد ستقدم لنا الدولة بشكل جديد ويبنى لها تاريخ وأبطال ورموز وقصص ملهمة، لتشبع فضول الناس بالبحث عن مجد ورابط بهذه الجغرافيا، فيقسم التاريخ ونأخذ حصتنا كما لكل دولة حصتها منه ومن أبطاله وصناعه ليكون حكرا لها.
سيبرع أهل السياسية والأدب والفن (موسيقا – سينما.. ) والتأريخ بالتصوير والتخليد وأيضا بتقديم صورة الاحتلالات والبطولات التي شكلت الهوية الجديدة.
سيبرع أهل السياسية والأدب والفن (موسيقا – سينما.. ) والتأريخ بالتصوير والتخليد وأيضا بتقديم صورة الاحتلالات والبطولات التي شكلت الهوية الجديدة
الدولة المحتلة
سوريا ذات "الجغرافيا الزُقاقية" كانت ممرا للحروب، الفتوحات والغزوات والحملات.. ساحة للانتصارات والخسارات والمطلوب أن تترسخ لأهلها الهوية، ربما لم ينجح ذلك حتى وقت قريب، إذ إن هذه الجغرافيا كانت تضيق بأحلام السوريين "السياسيين" الذين رأوها جزءا من مشروع عربي قومي أو سوري قومي أو دولة في حوض شيوعي أو إسلامي..
لكن ومع كل هذا حافظت الدولة السورية الحديثة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي على أركانها (الإقليم والسكان و..)، ومرت بمراحل الصعود والهبوط، لتُحتل ثانية لكن هذه المرة من قبل حافظ الأسد، فأصبحت الدولة موجودة لكنها محتلة. وحديثة لكنها تحكم بعصبية طائفة سياسية عسكرية اشتغل على تشكيلها حافظ الأسد، وتكريسا لشكل الدولة السورية المشوّه، ورث الحكم توريثا ملكياً.
الدولة المتحللة
مشت هذه الدولة حتى بداية القرن الجديد، تبحث عن شكلها النهائي لتبلى بنظام الابن الجديد (بشار حافظ الأسد) الذي أدخلها في تيه شهوته القاتلة للحكم المطلق بالحديد والنار والغاز السام وسيل التفاهة، مستعينا بالعصبية الطائفية السياسية التي تركها أبوه، وزادها (مصلحيا) بالطائفية الدينية ليُدخل الدولة السورية وأركانها في حرب لن يربحها حتى ولو كسب كل معاركها. حرب أنهت الكيان الواحد، أنهت حتى الحلم بدولة حديثة أو بدولة ما، عاصفا بذلك كل الأركان، ناسفا أسس وجود الدولة. عابثا غير عابئ.. لتصير معه الدولة المتحللة.
الإقليم أصبح أقاليم ثلاثة أو أكثر، والتنقل بينها يكلف الحياة أحيانا أو مبالغ خيالية ومخاطر كبرى. الشعب السوري صار شعوبا -قد لا يعترف نظام الأسد بسوريةِ أحد هذه الشعوب ويجيز سحقه، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً تحت عنوان "أنت ذاهب إلى موتك" تحدثت فيه عما يمارسه النظام بحق العائدين إلى دولتهم.
الدولة المتحللة التي لا تقدم ماء ولا كهرباء ولا رعاية صحية ولا تعليما ولا أمنا.. ولا تقدم شيئا، بل تأخذ كل الأشياء. الدولة المتحللة التي لا تعرف حدودها ولا عدد الغرباء فيها من الخبراء والأصدقاء وهواة سياحة الدمار والباحثين عن الخلود
السلطة سلطات، الاعتراف اعترافات والتمثيل تمثيلات.. ثلاثة وفود يصلون الأمم المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العامة وتمثيل سوريا أو لتمثيل ما لسوريا، الراية والعملة والدستور والقانون الناظم ومناهج التعليم و.. و.. كلها فككها وحللها نظام بشار الأسد.
الدولة المتحللة التي لا تقدم ماء ولا كهرباء ولا رعاية صحية ولا تعليما ولا أمنا.. ولا تقدم شيئا، بل تأخذ كل الأشياء. الدولة المتحللة التي لا تعرف حدودها ولا عدد الغرباء فيها من الخبراء والأصدقاء وهواة سياحة الدمار والباحثين عن الخلود لا تعرف عدد الاحتلالات أو المحتلين.. تعترف ببعض وتتنكر لبعض.
الدولة المتحللة تبيع أبناءها أغلى جواز سفر في العالم ليتركوها وتقتلهم إذا عادوا، تستورد نفطها وقمحها من أرضها، وتسرق رغيف الشعب وتبيع أرضه.. أهلا بكم في سوريا الأسد الدولة الحديثة المتحللة.