ليست الذكرى الثالثة والعشرين لموته فقط، إنها أيضا الذكرى الثالثة والعشرون لحكم ابنه، إنها الذكرى الثالثة والعشرون لأفظع كارثة في تاريخ سوريا!
لا يمكن لعقل أن يستوعب كل هذا الجنون، وأن يصدق أن شخصاً كبشار الأسد يحكم سوريا منذ ثلاثة وعشرين عاماً، أنا السوري الذي مرت هذه السنوات الطويلة على جسدي، وذاكرتي وتفاصيل أيامي، أكادُ لا أصدق هذه الرواية المجنونة، أي عبثية هذه، وأي فاجعة.. بشار الأسد يحكم سوريا منذ ثلاثة وعشرين عاما، يا للجنون!!
وأنت تتمعن في تفاصيل هذه الرواية الغرائبية، تشعر كما لو أنك تقرأ فصلاً من فصول روايات ماركيز، وتحديداً كما لو أنك تقرأ فصلاً من روايته مئة عام من العزلة، حيث الزمن يدور ببلاهة في دائرته المغلقة، وحيث ينعجن كل شيء، الواقع، والخيال والجنون والعبث بدم ولحم وأشلاء السوريين، وإن حدث وانكسرت هذه الدائرة قليلاً، فإنها لا تنفتح إلا إلى الوراء، لكأنما أغلق الأمام على هذه البلاد.
تتعاقب أجيال السوريين في دورة الاغتراب والعزلة، وتتيه في متاهة الأوهام التي تُعاش كما لو أنها الحقيقة الوحيدة على الأرض
وكما تختلط عليك أسماء الشخصيات، ودورها، ومعناها في رواية ماركيز فإنها سوف تختلط عليك في رواية العبث الأسدية، وكما تضيع ذاكرتك في رواية ماركيز بين الأب والعم والابن والحفيد، ومن أي أب، أو من أي مضاجعة مجنونة جاء هذا الوليد، كذلك سوف تختلط عليك الأسماء والدلالات في سوريا، فلا تعرف من هو جميل الأسد وما دوره، ومن هو رفعت الأسد، أو من هو فواز الأسد، ومنذر وبديع وعمار وماهر وهارون ومحمد و..و.. ومن نصبهم سادة هذه البلاد، ومن مكّنهم من العبث فيها كما يشاؤون، من هي أسماء الأسد التي أصبحت تدير نصف سوريا.. ومن.. ومن، وكيف يمكن تحمل كل هذا الجنون!؟
تتعاقب أجيال السوريين في دورة الاغتراب والعزلة، وتتيه في متاهة الأوهام التي تُعاش كما لو أنها الحقيقة الوحيدة على الأرض، ولا تدري هل تبكي أم تضحك أم تعوي عندما يحدثونك بعيون غائمة تائهة وأرواح مهزومة عن انتصارات، وسيجيبونك عندما تسألهم: على من انتصرتم؟ فيرددون: "على العالم كله"، ويغنون.. يغنون لانتصارات تحققت، ويباركون من يواصل هذا الجنون ذاهبا بكل الحماسة نحو موته منتشياً بانتصارات قادمة، حشود ذاهلة بقهرها وجوعها وموتها، وأمهات تزغرد لموت أبنائها، وآباء كما لو أنهم في غيبوبة، يتحدثون عن وطن لم يبقَ منه سوى قطعة من قماش تسمى "علماً"، تخفي جثة لقاتلٍ قتيل، يا إله السماوات أما لهذا العبث من نهاية؟؟!!
إذا كانت وقائع الرواية تصحّ في مجتمع "ماكوندو" الذي صنعه ماركيز من خياله، فكيف تصحّ في سوريا التي يقول التاريخ إنها من أوائل المجتمعات التي عرفتها هذه الأرض؟
ما بين المتخيل في "ماكوندو" ماركيز والواقع السوري ثمة تطابق مذهل، فطاعون الأرق الذي ينتشر في جميع أرجاء "ماكوندو"، هو ذاته الذي يصيب السوريين اليوم بالأرق، وداء النسيان أو فقدان الذاكرة الذي يشلُّ سكان "ماكوندو"، فلا يستطيعون تذكر أسماءهم ولا أسماء الأشياء، ويضطرون لابتكار طريقة لتذكرها، فيكتبون الأسماء عليها، وسيكتشفون بعد قليل أنهم فشلوا، لأنهم نسوا القراءة أيضاً، هو ذاته أيضا داء النسيان أو فقدان الذاكرة الذي يصيب السوريين.
هل تتخيلون أن تكون كل الأشياء وكل الوجوه مدموغة بكتابة لا أحد يعرف قراءتها؟
هكذا نحن في سوريا.. فبعد ما يزيد على نصف قرن من طاعون عائلة الأسد، اختلطت ذاكرتنا وأسماؤنا، ولم نعد نعرف أسماء شوارعنا، ولا مدننا ولا قرانا، ولم نعد نميز بين ركام هنا وركام هناك.. فالخراب شديد التشابه، ليس في الحجر والشجر فحسب، بل وفي عيون البشر ووجوههم وأرواحهم.
ثلاثة وعشرون عاماً لايزال بشار الأسد يحكم سوريا.. لا يزال يحكم البلاد التي دمّرها وقتل شعبها، وأصبح الخارج منها يسمي نفسه ناجياً، وأغرقها بالمخدرات، وبالمرتزقة وبالاحتلالات..
ينشر "أوريليانو" زراعة الموز في "ماكوندو"، وتزدهر هذه الزراعة وتصبح شريان الحياة فيها، وعندما يقوم عمال الموز بإضراب من أجل حقوقهم، ترتكب السلطات مجزرة بهم وتنهي إضرابهم، وبعد مجزرة عمال الموز، يتوقف اقتصاد المدينة، ويصيبها طوفان عظيم يستمر لخمس سنوات، وعندما ينتهي تكون مدينة "ماكوندو" محطمة، ويقلّ كثيراً عدد ساكنيها، ويتجاهل "أوريليانو" كل هذا، ويغوص في محاولة فك رموز مخطوطات "ميلكيادس"، لكن عمته "أمارانتا أورسولا" التي تربطه بها علاقة غرامية محمومة، تعود من مكان ما، فتعود العلاقة بينهما وتصبح "أمارانتا" حاملاً، وعندما تحين الولادة، يولد طفل له ذيل خنزير، وتظل أمه "أمارانتا" تنزف حتى الموت بعد الولادة، يشعر "أوريليانو" بيأس شديد، فيخرج من عزلته ليطرق أبواب بيوت "ماكوندو"، لكن المدينة الآن مهجورة، وأخيراً يعثر على نادل يجلس وحيداً فيقدم له البراندي، يشرب ويشرب ثم يغوص في نوم عميق، وعندما يستيقظ يتذكر مولوده، ويتذكر عمته التي أماتها النزف، فيسرع للوصول إليه، لكنه عندما يصل، يجد أن النمل يأكله.
منذ خمسة وخمسين عاماً حلت لعنة هذه العائلة على سوريا، ولا تزال، ولا نزال نحن السوريين كما لو أننا أصبحنا بلا ذاكرة، ننسى ماذا فعلت بنا هذه السنوات الطويلة.. كأنّنا لسنا من دفع ويدفع ثمن كل يوم من هذه العقود، وكأنّنا لم نشهد خراب سوريا، وموت أبنائها وتشريد شعبها، كأنّنا ألفنا دمارها، وألفنا أن نرى بيوتها المهدّمة الخاوية.
ثلاثة وعشرون عاماً لايزال بشار الأسد يحكم سوريا.. لا يزال يحكم البلاد التي دمّرها وقتل شعبها، وأصبح الخارج منها يسمي نفسه ناجياً، وأغرقها بالمخدرات، وبالمرتزقة وبالاحتلالات..
ثلاثة وعشرون عاماً، ولا يزال هناك من يريد استمراره!!
ربما تتململ عظام ماركيز في قبره، وتضحك متشفية عظام حافظ الأسد في قبره، فما تخيله ماركيز في واحدة من أعظم الروايات التي أنتجها العقل البشري، استطاع حافظ الأسد أن يصنع واقعاً أشد غرائبية منه.
جثة، لطاغية مجرم تواصل حكم بلد بعد ثلاثة وعشرين عاماً من موتها... ويحدثنا أحدهم عن الواقعية السياسية!!!
*("ماكوندو" هي القرية الأسطورية التي تدور فيها معظم أحداث العمل الأدبي للكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا مركيز "مائة عام من العزلة"، وهي مكان روائي غير حقيقي، أبدعه خيال ماركيز).