icon
التغطية الحية

سنية صالح.. الشاعرة المخذولة والمطمورة تحت جدار الماغوط

2023.05.22 | 23:26 دمشق

آخر تحديث: 22.05.2023 | 23:26 دمشق

سنية
+A
حجم الخط
-A

منذ بدء عصر سيطرة الذكورة الذي قاده اكتشاف الزراعة والمعادن في البشرية، والمرأة تعاني من تزعزع الأرض تحت قدميها، ومن سحب حضورها الحقيقي عن معظم جوانب المنجز البشري المعرفي، كما تعاني أيضا من تهميش لقدرتها الفطرية على إعادة انتاج الحياة من ذاتها، ولقدرتها على تأنيث كل ما حولها، واكسابه روحا أكثر قدرة على العطاء والحب، وعلى صناعة الجمال والسلام.

المنجز البشري الإبداعي والفني لم يكن بمعزل عن الهيمنة الذكورية المتغلغلة في جسد الحضارة البشرية الحديثة، بما في ذلك الموسيقا والرسم والشعر.

وفيما اذا اعتبرنا أن الغرب بشكل عام قد عاش في القرون الثلاثة الأخيرة، ثورة فكرية قادتها النهضة الصناعية وحركات تحرر المرأة والثورات الشعبية على اختلاف أشكالها وتجذر مفهوم الديمقراطية في الحكم، بالإضافة للوصول إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وهو الأمر الذي قاد إلى بدء ظهور بعض علامات المساواة بين الجنسين، وإلى بدء استعادة المرأة لبعض من صفات موقعها الحقيقي في المجتمع بما في ذلك في القطاع الفني الإبداعي؛ فإن مجتمعاتنا العربية ما تزال في العمق، بعيدة كل البعد عن ثوراتها الفكرية الحقيقية، على الرغم من محاولاتها في إطلاق ثوراتها السياسية، خاصة وأن مجتمعاتنا لم تكن قادرة على الاستقلال عن الاحتلالات المتتالية إلا قبل أقل من ثمانين عاما، الأمر الذي انعكس بشدة على الحضور الإبداعي في الساحة العربية، وبشكل خاص على الحضور الشعري. 

وعلى الرغم من أنه لا يمكن لأي دراسة أو بحث أو استعراض للشعر الحديث أو لقصيدة نثر في سوريا، إهمال اسم رائدة قصيدة النثر السورية، الشاعرة سنيّة صالح، إلا أن سنية المبدعة التي تحفر عميقاً في كل من يقرؤها، وتدهشه بأنوثة مطعونة في صميمها، والمرأة المثقفة الطافحة بالشعر والتفرد والسبق والهوية والأمومة، لم تأخذ في الحقيقية حقها من الحضور والنقد والمجد الذي تستحقه، وقد رحلت كتلك "الغابات التي تعاني آلام الولادة، والتي يصفعها البحر بذكورة الملح".

وكما تقول سيمون دي بوفوار: "إن المرأة لا تخلق امرأة، بل تصير كذلك"، فإن كلا من المحمول الثقافي الذكوري، وشخصية الشاعر المقهور محمد الماغوط المزاجية والمتقلبة، الحنونة والقاسية جدا، قد حول سنية الشاعرة الحادة الذكية المدهشة، من شابة فرضت ذاتها مبكرا جدا على الساحة الثقافية في سوريا ولبنان، إلى امرأة مكسورة مظلومة شعرياً وإنسانياً، ترحل بصمت، بسبب سرطان عشش فيها مثله مثل الظلم والخذلان.

شهرة الماغوط التي استحقتها قصيدته بكل جدارة، بالإضافة إلى دعم هذه الشهرة من مجتمع يكرس دائما التفوق الذكوري حتى في الشعر، جعلا الحياة بين سنية وبينه تنقلب تعقيداً ومأساة

وإن حاولنا أن نعطي بعض الحق لشاعرة أعطت الشعر جسداً من ماء ونار، وماتت من البرد والعطش، ولامرأة راهنت على الثقافة، وعلى الشعر الحقيقي، وخذلها الحب والشعر مثلما خذلتها الحياة نفسها؛ فإنه يجب علينا أن نتوجه إلى أهم مراجع ومنابع روح سنية الشاعرة، وإلى تأثير كل من هذه المنابع على لغتها ورؤاها.

هنا، سنجد أن طفولة سنية "المعطوبة وناقصةِ الدمى"، كما وصفتها أختها الناقدة خالدة سعيد في مقدمة كتاب الأعمال الكاملة لسنية صالح الصادر عن وزارة الثقافة السورية، قد عكست أيضا تاريخ حزن بشري أنثوي كامل، لأنه وفي يوم ولادتها، كان قد دُفن أخوها الذكر الوحيد في العائلة، لتحمل بذلك سنية وزر أنوثتها، ووزر رحيل المولود الذكر الوحيد، ولتبدأ أمها بفقد حاسة السمع نهائياً، ثم الموت تاركة خلفها طفلة مكسورة ستكون حاضرة في كل أعمال سنية الشاعرة:

"الليالي المظلمة
خلقت للألم والذكرى
بين الثياب والعطور
تبكي حمامة مذعورة
حمامة يُقال لها
أمي".

واستمرارا للطفلة المطعونة في أنوثتها، استمرت سيرة سنية في تدوين سردية الظلم الذكوري للأنوثة المكسورة، في أعمق وأصدق تجلياتها، وذلك من خلال ارتباطها العاطفي والعقلي والفكري والشعري بالشاعر الكبير والرعوي والمتمرد المتفرد، محمد الماغوط، بعد أن فازت بمسابقة جريدة "النهار" لأفضل قصيدة، حيث كان كل من أدونيس، وأنسي الحاج، أعضاء في لجنة التحكيم. وقد قال أنسي الحاج حينها إن هذه الشاعرة تعرف كيف تقدم العالم عارياً:

"عاجزة أن أعيدك إلى مخيلتي أيتها الغابة
فأية عبارة حكيت للأشياء المنسية لحظة الغروب
وأية ورقة صمّمت لحظة البرودة
وبأي حوار فاجأتك الفصول".

وبالإضافة إلى الشعر، جمع هروب الماغوط من ملاحقة الأمن السوري، وتخفيه الطويل في دمشق، الشاعر الشاب مع الشاعرة الجديدة. وعلى الرغم من حقيقة أن العلاقة بين سنية والماغوط كانت في البداية سبب توهجها الداخلي، بعد أن كتب فيها الماغوط العديد من القصائد ومسرحية "الأرجوحة" التي بقيت زادها وهي المرأة المولعة بالكلمة الحارة، وعلى الرغم من أنها وصفت الماغوط في تلك الفترة بأن "له روحاً بريةً محمية من التحجر والتكلس" وجعلت الحب بينهما في ديوانها الأول، يشهق كنسر:

"إنك نسر من الفرح
ونسر من الشعر
وغدائر الحزن
تفقد ذاكرتها"

إلا أن سنية أرادت من الشعر أن يكون "حصانها الخشبي"، مثلما أرادت من الحب أن يكون عصاها في البقاء، لكن كلاهما قد خذلاها في الحقيقة وجعلاها تقع على الأرض منكبة على وجهها وروحها وتبقى دائما أسيرة لذلك السقوط. خاصة وأن الماغوط كانت له ثاراته الخاصة مع هذا العالم الذي لم يكن يوما عادلا معه، ومزاجه المرتعد، ومرجعتيه العربية الشرقية في التعامل مع الزوجة الأم، وهو الأمر الذي حرمه من أن يكون عادلاً مع نفسه، ومع سنية، وحرمه من أن يستطيع أن يواجه موروثه الذكوري الظالم، مثلما واجه كل السلطات السياسية، وراح ينتقم من خلال إذلالها وتهميشها من العالم والظلم، ومن الخيبة والفشل.

كما أن شهرة الماغوط التي استحقتها قصيدته بكل جدارة، بالإضافة إلى دعم هذه الشهرة من مجتمع يكرس دائما التفوق الذكوري حتى في الشعر، جعلا الحياة بين سنية وبينه تنقلب تعقيداً ومأساة:

 "لكن الغابة بيضاء
والعصافير ثلج
شخص ما سيطلق الرصاص على ذاكرتي المعلقة في الهواء".

وعلى الرغم من صمت سنية وانكفائها على نفسها والتجائها فقط إلى الشعر، إلا أن هاجس سنية الشاعرة العميق بدفاعها عن الأنوثة المطعونة فيها، والمسحوقة على مر التاريخ العربي، وإصرارها على ما تحمله هذه الأنوثة من خصبٍ قادرٍ على إنقاذ العالم، كان يشتعل في قصائدها:

"من الحروب
أم من دموع امرأة حقيقية
يتكون هذا النهر العظيم الذي يسمونه الحياة؟".

ولعل قصيدة "مليون امرأة هي أمك" من أوضح أعمال سنية التي تنتصر فيها للنسوية المقهورة، والتي تحاور فيها أماً تتلو وصيتها الشعرية والفكرية والثورية على ابنتها:

"شدي جذعك إلى جذعي
يا ابنتي
ثم اسحبي ما تبقى من جسدك في جسدي واعبري
ستكون أمامك ممرات طويلة وضيقة
والحقيقة تكمن في أشدها ضيقاً
حذارِ أن تنسي
أنك ذاهبة لتصرخي وترفضي
لا لتنحني".

وقولها:

"قبل أن يدركني اليأس
أقفلي يا صغيرتي ذراعيك الخائفتين حولي
وارمي مفتاحهما في البحر أيتها اللؤلؤة
نمت في جوفي عصوراً
استمعت إلى ضجيج الأحشاء
وهدير الدماء
حجبتك طويلاً
ريثما ينهي التاريخ حزنه
والمحاربون حروبهم
والجلادون جلد ضحاياهم
ريثما يأتي عصر آخر
فيخرج واحدنا
من جوف الآخر".

هكذا، وبالرغم من منابع سنية صالح الكثيرة والوفيرة، إلا أنها تشير دائما إلى عطش طاعن لذواتنا، وعطش شديد للتعرف على شاعرة لم تأخذ حقها من الضوء أثناء حياتها، شاعرة عاشت وماتت في الظل، فقط لأنها أنثى، ولأنها زوجةٌ لاسمٍ كبيرٍ لا مكان حوله لها، شاعرة تركت لنا شعراً ينتمي فقط لنفسه، وللشعر بكل جدارة، شاعرة عمّرت أروحنا بخرابها، لكنها لم تكن قادرة على الانتصار لنفسها بقوة ربما ما تزال تنصفنا نحن أيضا.