سلطة المثقف التي شردتنا.. هل يمكنه أن يقود المرحلة؟

2024.09.12 | 06:26 دمشق

345
+A
حجم الخط
-A

تظاهر عدد من الناشطين المطالبين بالإصلاح الديمقراطي في عام 1989 في بيجين، عاصمة الصين، في ميدان تيانانمن ضد النظام الشيوعي، وقُمعت تلك التظاهرات بقوة.

وبعد فترة، ظهر أن تلك الحركة لم تكن تدافع عن نظام ديمقراطي، بل كانت تحمل "نخبوية صارخة وازدراء مقيتًا لطبقات اجتماعية معينة"، فأُطلق عليها "متلازمة تيانانمن"، وفق ما نشره كاتب أوروبي بعنوان "الحفاظ على الديمقراطية من العامة – المثقفون والنخبوية في حركة الصين الاحتجاجية"، كما نُشر كتاب عربي بعنوان "المثقف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمن".

تتعدد التعريفات والتصنيفات التي تناقش المثقف ودوره، بين المثقف العضوي لغرامشي، وتمثيلات المثقف لإدوارد سعيد، والمثقف الموسوعي، والمثقف الهاوي، والآخر المحترف القابل للاستخدام؛ حيث توزعت صور ثقافتنا العربية. ولسنا في صدد النقاش المنهجي العميق في نقاط الاختلاف بين كل منها، لكن المرور يبدو نافعًا فيما طرحه الدكتور علي حرب في نقد المثقف والمفكر لتفكيك أوهام النخبة، وتحفيز الالتصاق بالواقع وفهمه وإدراك آليات عجزه، وضرورة اتخاذ المثقف موقفًا من نفسه ومحيطه وأدواته؛ بجدية وواقعية معًا، مع ضرورة إعادة قراءته للمجتمع والدولة، وإعادة موضعة نفسه ضمن اصطفافات القوة بينه وبين السياسي. تشكل النقطة الأخيرة -توازن القوة بين المثقف والسياسي- موضوعًا لا بد من إثارته. ففي المقال السابق، كان التركيز على الدولة كسلطة وكيان له حدود وهوية وثقافة وقانون يعبر جزئيًا عن حقوق مواطنيه؛ يقترب منهم أو يبتعد، ولا بد للمثقف من الانخراط فيها بحكم مواطنته، مع إعلان أو إضمار مخالفته.

إن غياب الند المباشر الذي يمكن معارضته عبر ندوات أو مظاهرات أو اجتماعات حركية سرية، أدى إلى غياب الإطار الذي يجمع؛ وهو فرق يمكن ملاحظته ببساطة بمقارنة عالم الشتات بإدلب المحكومة بهيئة تحرير الشام.

هنا لا بد من مناقشة أثر جديد في غياب الدولة ككيان، وغياب السلطة كند يشكل مركزًا أو بؤرة يتدافع معها المثقف في معادلة توزيع القوة بين ندين لكل منهما سلطة حقيقية أو رمزية أو متخيلة. يمكن تمثيل ذلك ببساطة بذكر حدث سياسي يعلمه الجميع وهو فشل الإخوان المسلمين في مصر -وبعيدًا عن الموقف منهم- حيث يكاد يغفل الجميع عن أحد أسباب عجزهم عن حكم مصر آنذاك؛ وهو ظنهم أن تجربة الحكم الجديدة تشبه خبرتهم العتيقة في المعارضة، رغم اختلاف الموضعين واختلاف أدوات كل منهما.

وذاك خطأ سياسي وقع فيه الساسة؛ فما الخبرة التي يحتفظ بها المثقف السوري بعد الانعتاق من السلطة، وإمكان توجيه دفة الثقافة لدولة تتحرر؟

إن غياب الدولة ككيان موحد يضم الجميع، تحكمه سلطة باحتكاك مباشر مع تعبيرات المثقفين المعارضة، أو خروج عدد كبير من المثقفين إلى عالم اللجوء، أدى إلى انغمار الكثير بالشعور بغياب الند الواحد الذي تجتمع ضده غالبية ما. فأدى ذلك إلى تخلق بؤر جديدة بين المثقف والمجتمع السوري أحيانًا، وبين المثقفين أنفسهم أيضًا. غياب الند المباشر -السلطة- جعلهم يختلقون أندادهم، فتشظت صور تلك الأنداد وتنوعت، ولم تعد تدفع باتجاه تشكيل بؤرة تتبلور في إطار عام جامع؛ باعتبار أن غياب ساحات مواجهة مع عدو محدد سيشغل الجموع ببعضها، أو على الأقل ستنشغل كل منها بآفاق وأهداف وأولويات مختلفة، وأبعد ما تكون عن رؤية علي حرب في معادلة توزع القوى ضمن ميادين تبادل التموضع مع الآخر. وبشكل أكثر تباعدًا عن إدوارد سعيد وسائر القراءات في دور المثقف التي تناولت المثقف في ظل سلطة، ما لم ينزل من برجه العاجي ويتحول إلى فاعل اجتماعي وناشط ثوري.

إن غياب الند المباشر الذي يمكن معارضته عبر ندوات أو مظاهرات أو اجتماعات حركية سرية، أدى إلى غياب الإطار الذي يجمع؛ وهو فرق يمكن ملاحظته ببساطة بمقارنة عالم الشتات بإدلب المحكومة بهيئة تحرير الشام. هناك يمكن أن نجد حراكًا ثقافيًا ما معارضًا أو مواربًا أو موازيًا؛ يعمل سرًا أو علنًا ويظهر جزء منه في المظاهرات، ما يعني تبلور الإطار الذي يمكن أن يشكل متنًا عامًا متفقًا عليه قبالة سلطة مباشرة.

بين نخبوية المثقف وشتاته، نجد أن الموقف يندرج تحت نمطين يتخذ كل منهما تمثلات مختلفة: -الأول شعور المثقف بأن لا سلطة عليه ما جعله يُخرج كل ما لديه، متخيلًا أنه يملك سلطة الثقافة رغم أنها غير محددة ولا مؤطرة بضوابط محددة كما تنبني ثقافات الشعوب في مجتمعاتها، من مرجعيات أو تقاليد ثقافية وأعراف. -الثاني هو تنامي جبهة عريضة متشظية أيضًا من المثقفين يحاول كل منهم محاباة سلطة متخيلة أو حقيقية؛ في وسط دولي ينهب الذاكرة السورية والأرض والثقافة وتمظهراتها، بل ويحاول إعادة تشكيلها أو الإمعان في تشظيتها. فالمثقفون أكثر الناس اختلافًا وتنوعًا وتناقضًا، وقد يتفرد كل منهم تساميًا على الرغبات أو غرقًا في أتونها.

إن غياب السلطة جعل أغلب التصورات الثقافية لدى قسم من مثقفينا تتجه لمعارضة تتسم بنقود مختلفة، وأولويات متعارضة تشبه اختلاف حزب البعث في أهدافه بين "وحدة، حرية، اشتراكية"، والغرق في تفصيل أي منها ستكون قبل الأخرى، ما شكّل نسقًا ثقافيًا مشتتًا في تحديد مشكلاته وأهدافه، وغرقه في التنظير أو التفريغ أو التناقض مع ذاته. بل ذهب بعيدًا في تفكيك الهوية وربما نقضها ومحاولة تشكيلها من جديد، بالرغم من أننا في مرحلة أبعد ما تكون عن مناقشة التجديد في الهوية، التي يتم استهدافها عبر القتل والتفتيت والتشظية للمجتمع ومحاولة تفتيت التصورات الأولى والبنيوية للهوية. كما لا يمكن للهوية أن تُصاغ باتفاق سياسي تلعبه قوى دولية على الأرض، مضافًا له جهل الكثير من المثقفين الذين ذهبوا لتصور علمانية الدولة واعتبارها معيارًا رائزًا للهوية أحد عناصرها، في خلط تام بين نمط الحكم وبين هوية الدولة كذاكرة وتاريخ وعمق حضاري.

لم يكن المثقف بمعزل عن التجاذب السياسي والتنابذ الأيديولوجي، ولأنه لم ينتظم في نسق خارج إطار الأيديولوجيا أو بقي منفردًا بذاته، لم ينجز نسقًا ثوريًا يلتزم بخط الثورة، يعمل على مشتركاتها العامة، ولم يشكل إطارًا سياسيًا أو حزبيًا. فالأحزاب رغم اختلافاتها يمكن أن تجتمع تحت سقف عمل سياسي جمعي. تحولت الساحة إلى دكاكين سياسة ودكاكين ثقافة، كل يدعي وصلا بليلى، وهو ما يدل على عجز المثقفين عن تشكيل جماعة ثقافية موحدة على ثوابت تكون نواة لحزمة حقوق وواجبات تنتقل بالمجتمع إلى وضع أقل سوءًا مما نشهده.

في مجالات الثورة السورية، وفي المنافي، وفي ظل عدم وجود أحزاب تمثل مشتركا حقيقيًا وتعبيرًا حقيقيًا عن أوسع شريحة من الشعب الثائر؛ مارسنا النقد لمجرد النقد، والذي لو وضع قبالة بعضه لانتقض الناقد والمنقود.

يمكننا التطرق لمثال بسيط في الجزيرة السورية، حيث نشطت أحزاب كردية منذ عهد الأسد وتسابقت في رفع سقف شعاراتها لاجتذاب الشارع الكردي. وبعد بحث دقيق وعلاقات قريبة من أغلبهم، نجد أن كتلة معتبرة من المثقفين الكرد دأبوا على ممالأة الأحزاب الكردية عمومًا، بل ورفع سقف الشعارات القومية أكثر، لاعتبارهم أن الأحزاب تمثل سلطة قد تتبنى أو تسوّق هذا المثقف أو ذاك وتمنحه سلطة رمزية كمثقف قضية. نستنتج أن وجود حزب أو أحزاب لها سلطة متخيلة أو حقيقية مع امتلاكها رمزية معينة وسط شارع مفترض، جعل المثقفين يتفقون على إطار عام دون تنسيق أو تخطيط مشترك.

في المقابل، في مجالات الثورة السورية، وفي المنافي، وفي ظل عدم وجود أحزاب تمثل مشتركا حقيقيًا وتعبيرًا حقيقيًا عن أوسع شريحة من الشعب الثائر؛ مارسنا النقد لمجرد النقد، والذي لو وضع قبالة بعضه لانتقض الناقد والمنقود. هذه المحاولات متشظية ومتنوعة، حتى لا نجد ما نتفق عليه سوى نديتنا للأسد، رغم استعانة بعض المثقفين لأصدقاء من مؤيدي الأسد في قضايا ذات بعد قبلي، أقلي، طائفي، أو إثني، أو ذات بعد أيديولوجي من أيتام اليسار التقليدي ومتقاعديه في المعارضة وليس الثورة.

يبدو مما لا بد منه أن ينبري مثقفون لقراءة وتحليل دور المثقف في ظرف استثنائي على المستويين المعرفي والمنهجي، إضافة إلى نزولهم لمستوى إجرائي يتجلى في عمل جماعي، وبناء جهد يعتمد على الشباب ولا يتعالى على الشارع في الداخل.