تجمعت أربع شقيقات على جانب الطريق وقد اشرأبت أعناقهن وأخذن يحدقن في الأفق البعيد خلف سياج من الأسلاك الشائكة المدعمة التي تلتف حول الجبل، ثم خلعت إحداهن سترتها وأخذت تلوح بها فوق رأسها ببطء، وعلى مسافة بعيدة، أخذت نقطة بيضاء صغيرة تلوح لها بشكل جنوني من سفح التلة.
هتفت سهى الصفدي عبر هاتفها المحمول بكل حماسة: "بوسعنا رؤيتكم!" ثم كفت عن الكلام هنيهة لتمسح دموعها التي بدأت تتهاطل، وبعد ذلك تابعت كلامها بالقول: "هل ترونا أنتم أيضاً؟"
كانت تلك النقطة الصغيرة الموجودة عند سفح التلة هي شقيقتها سوسن التي افترقت عنهم بسبب الحرب والاحتلال، فلم يروها منذ 22 عاماً.
سهى تحمل صورة شقيقتها سوسن
تنتمي تلك الشقيقات البالغ عددهن ستاً للطائفة الدرزية التي تعتبر من الأقليات الدينية الصغيرة الموجودة في الشرق الأوسط، ويتوزع أبناء تلك الطائفة ما بين سوريا ولبنان والأراضي المحتلة في إسرائيل وخاصة في مرتفعات الجولان، وهي عبارة عن مرتفعات وعرة انتزعتها إسرائيل من سوريا في عام 1967 ثم ضمتها لأراضيها في عام 1981، فكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي اعترفت بسيطرة إسرائيل على الجولان، لأن بقية دول العالم تعتبرها أراضي سورية محتلة، بيد أن احتلال إسرائيل للجولان فرق الأهالي عن بعضهم.
"تلة الصياح"
تعيش خمس شقيقات من أصل ست ينتمين لعائلة الصفدي، وكذلك والداهن في قرية مجدل شمس الدرزية القريبة من المنطقة العازلة التي أقيمت ما بين مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل وسوريا، ولكن الشقيقة السادسة سوسن التي تبلغ من العمر 49 عاماً تزوجت شاباً من جرمانا الواقعة على تخوم العاصمة السورية دمشق قبل 27 عاماً، فصارت تقيم في سوريا منذ ذلك الحين. ولدى تلك العائلة أرض تقع ضمن المنطقة العازلة، يزرعون فيها الزيتون والتفاح كما أقاموا فيها بيتاً صغيراً.
ومع قلة الزيارات التي منحت للأقارب على مدار السنين، تحول اسم التلة القريبة من تلك المنطقة إلى: "تلة الصياح" حيث يتجمع الأهالي على أحد طرفي السياج ليستخدموا مكبرات الصوت في أثناء محادثة أقاربهم الموجودين على الطرف الآخر.
تراجعت تلك العملية بعد ظهور مكالمات الفيديو عبر الإنترنت، بيد أن الحرب السورية صعبت على من يقيمون في الجانب السوري الوصول إلى المنطقة العازلة.
ولكن منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من الشهر الجاري، بدأ الأهالي مثل عائلة الصفدي بإحياء تلك العادة القديمة، يحدوهم الأمل مهما كان ضعيفاً بأن يكون تغيير النظام فاتحة وبشرى لتخفيف القيود ما بين المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل وسوريا بما أن تلك القيود حرمتهم من أحبائهم لفترة طويلة جداً.
تقول سهى الصفدي، 51 عاماً، بعد أن رأت النقطة التي تمثل شقيقتها عند التلة يوم الأربعاء الماضي: "كانت الأمور مختلفة بعض الشيء، إذ إننا نراها الآن شخصياً، ونحس بأن ما يفصلنا عنها مجرد دقيقتين بالسيارة، أي أن الأمور أصبحت أفضل بكثير".
منذ سقوط الأسد، واظبت الشقيقات على القدوم إلى السياج كل يوم حتى يرين سوسن، وقد رتبن الأمور عبر الهاتف لتحديد موعد معين، ثم أجرين مكالمة فيديو مع محاولة كل منهن أن تلمح شقيقتها الموجودة على الطرف الآخر عند التلة.
تعلق سهى على ذلك بقولها: "كانت نقطة صغيرة جداً ولكن بوسعي رؤيتها، ولقد داهمني خليط من المشاعر على رأسها الحزن والفرح والأمل، وأحس أننا سنلتقي بها قريباً جداً إن شاء الله".
بعد سقوط الأسد، توغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العازلة ودخل الأراضي السورية، واحتل جبل الشيخ، أعلى جبل في سوريا، والذي تقع قرية مجدل شمس على سفحه، ولذلك تحولت المنطقة العازلة الآن إلى مركز للنشاط العسكري والاستيطاني، ورغم كل ذلك بقيت سوسن عاجزة عن الاقتراب من السياج، إلا أن التغييرات الحاصلة في سوريا أحيت الأمل في نفوس العائلات التي تشتت أفرادها بإمكانية اللقاء ولم الشمل من جديد.
الشقيقات الخمس من آل الصفدي في بيت العائلة بمجدل شمس
تقول أميرة الصفدي، 53 عاماً: "لقد منحنا ما حدث الأمل... بإمكانية رؤية بعضنا بعضاً، وبإمكانية لم شمل جميع الأشخاص الذين يعيشون وضعاً كوضعنا".
بيد أن رؤية سوسن على الطرف الآخر من المرتفعات، على مسافة لا تعدو مسيرة قصيرة على الأقدام، بات تجربة مؤلمة فعلاً بالنسبة للشقيقات، ولهذا بكين وصرن يلوحن بأيديهن ويصرخن أكثر عندما دفعت شقيقتهن ابنها كرم البالغ من العمر 24 عاماً للحديث معهن عبر الهاتف، إذ لم يلتقين به غير مرة عندما التم شمل الأسرة في الأردن عندما كان في الثانية من عمره، وعن ذلك تعلق أميرة بالقول: "إن ذلك يحرق القلب، فهم قريبون وبعيدون في ذات الوقت، وكأنها هنا لكننا لا نستطيع أن نصل إليها، أو أن نحضنها".
المصدر: The Associated Press