(الشعب يريد إسقاط النظام) عبارة أشهر من نار على علم. وقد اتخذت خصوصية ما في الحراك السوريّ الذي انطلق في آذار 2011 وباتت المفتاح السحريّ الذي ينبغي لكل من هو ضدّ النظام أن يمتلكه وينطلق منه في إثبات حسن نواياه الثورية.
الآن بعد عقد من هذا الحراك صار ممكنا (التأمل) في بعض حالاته ومظاهره، في حين كان هذا التأمل يبدو للبعض منا نوعا من (الترف الفكري) بينما المظاهرات شغالة والدم يتدفق في الشوارع والاعتقالات لا ترحم أحدا.
تماهت فكرة (سقوط النظام) مع فكرة جماهيرية مستساغة هي (إسقاط الرئيس). واعتقد من يحمل هذا التماهي أنه بمجرد سقوط الرئيس فهذا يعني سقوط النظام. ربما كانت هذه القناعة مبررة على الصعيد الشعبويّ، لكنها تحتاج لتفكير آخر حين تدور بين محاورين عقلانيين وأصحاب رؤيا سياسية استراتيجية غير مرحلية. فمفهوم النظام لا يشتمل فقط على شخص رئيس البلاد في أي بلاد، لأن الشخص هنا هو نفسه جزء من النظام بمعناه الأوسع. أو على الأقلّ هذا ما يعنيه الأمر في دولة تحكمها السياسة والقوانين عبر سلطاتٍ مستقلّة مسؤولة محكومة بمبدأ (فصل السلطات). فالنظام هنا يمتد ليحتوي داخله مجموعة السياسات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والاجتماعية والثقافية.. إلخ التي تحكم واقع البلد برمّته. وفي المعنى العميق لسقوط النظام المرافق لفعل الثورة ينبغي أن يسقط كل ذلك جميعا! وإلا فما هي الثورة؟ هل يتمّ غضّ النظر عن ضرورة تغيير العقلية السائدة كلها من أجل أن تستقيم شعاراتنا مع رغباتنا؟
علما أن جميع رغباتنا كانت مشروعة ولا أحد يجادل في أحقيتها وأولويتها. لأنها تعبير صادق وصافٍ عن عمق المأساة التي غرقنا فيها بسبب تسلّط النظام الأسديّ علينا. لكن هذا النظام الأسديّ كان أخطر من حصره بشخص اثنين: حافظ وابنه. فحافظ وسمَ الحياة السورية بطابعٍ يدور حول شخصه بدءا من دستور انقلاب الحركة التصحيحية وانتهاء بدستور معدّلٍ ليلائم الصبيّ الطويل. فردٌ واحدٌ قبض على مفاصل الحياة ومستويات المجتمع بكل طبقاته وأجهزته ومنصّاته الثقافية والعلمية.. لكن هذا الفرد لم يكن إلا تنغيما متفقا مع رغبات كثيرين من بطانة اقتصادية وأمنية وإعلامية رأت ألا مفرّ من ربطِ حتى حياتها الشخصية بخيوط ذلك الفرد الحاكم.
لقد تحول (النظام) إلى ظاهرةٍ لها شروشٌ ضاربة في المعيشة السورية بكل أصعدتها. وصار شعور السوري أنه أمام حافظ أسد في كل مكان يتحرك فيه
لقد كان على السوريين أن يجدوا أنفسهم مضطرين في معظمهم للتأقلم مع (نظامٍ) يمنع عنهم الحياة نفسها، متدبرين أمورهم في التكيف مع شروط موتهم البطيء. وصار السوريّ فزعا ليس من (الرئيس) وحسب، بل من عنصر أمنٍ يزوره في مكتبه في العمل طالبا منه معلومات حول أسئلة معينة. كان النظام يعني هذا بالضبط: رئيس في سدّة الحكم فوق، يرفده (رؤساء) صغار تافهون منتشرون في كل مكان وزمان. وبات هذا الرئيس (فوق) مرتاح البال مطمئنا إلى أن هناك مندوبين عنه ووكلاء يقومون بمهامّ يومية تفصيلية هو في غنى عن القيام بها، فهو لا يملك وقتا كافيا لذلك فوراءه مهام قومية جليلة أبرزها تحرير الأرض وفلسطين ومقاومة الإمبريالية الغاشمة والوقوف سدا منيعا في وجه المؤامرات.
لقد تحول (النظام) إلى ظاهرةٍ لها شروشٌ ضاربة في المعيشة السورية بكل أصعدتها. وصار شعور السوري أنه أمام حافظ أسد في كل مكان يتحرك فيه. فكيف لهذا السوريّ الثائر أن يتمكن من إسقاط كل هؤلاء (الحافظات أسدات) المعششين في تلافيف الحياة وشرايينها؟ كيف يستطيع السوريّ أن يقضي على ما يمكن تسميته بـ (خوارزميّةٍ أسديّة) احتلت كل شيء؟ إنها بالفعل خوارزميّةٌ مرعبةٌ تلك التي أطبقت على نشاطاتنا وهواجسنا ومشاريعنا، خوارزمية تعني استفحال (systēma سيستيما) الأسد في دورة حياتنا الخاصة والعامة. وصار لا مهرب من التأثر بهذه الخوارزمية الفظيعة حتى في صمتنا ونومنا. وهي بحاجة إلى (سيستيما) بديلة كلية.
النظام الذي حكمنا وما زال، هو منظومة متكاملة وسرديّة شاملة تصبح فيها مسألة (سقوط الرئيس) تفصيلا واحدا من تفاصيل (سقوط النظام)
إن الأمر يحتاج إلى ثورة قد ينطبق عليها صفة الثورة المستدامة حقا، وليس فقط مظاهرات تليها اعتقالات وتهجير وكيانات سياسية ولجوء ومفاوضات.. إلخ. لكن (النظام) نفسه ولكي يكفل لنفسه الاستمرارية في كونه نظاما عاما يستعمر النفوس والرؤوس، أعاد صياغة الواقع السوريّ على نحوٍ لا يوجد له مثيل إلا في الأنظمة الشمولية الكلاسيكية في التاريخ والتي لم يبق منها الكثير، بل ربما هي نفسها تلحلحتْ قليلا وانزاحت عن شموليتها باستثناء الحالة السورية. على نحوٍ شلّت معه كل مظاهر الحياة الطبيعية، وصرنا أمام محاولات حياة، محاولات ثقافة، محاولات اقتصاد. بهذه الحالة باتت مسألة الثورة معقدة كما هي معقدة مسألة النظام! لأن هذا الأخير نصّب من نفسه ممثلا للثورة! وآمن الناس بمبادئ الثورة تلك حتى بات نقدها السطحيّ مؤامرة وإضعافا لنفسية الأمة. وزرع النظام في الأذهان أنه من أجل ماذا سوف يثور الناس؟ وضدّ من؟ نحن الثورة والحرية والعدالة والخلود لرسالتنا. من هنا نرى فئات مغيّبة من السوريين لم تصدق أن هناك سوريين (شركاء في الوطن) خرجوا مظاهرات ثائرة ضدّ النظام الذي هو نفسه جاء محمّلا على أفكار ثورة آذار! لم يصدق سوريون عاطلون عن التفكير والسياسة ولم يقتنعوا بمشروعية الثائرين وكانت تهمة التآمر جاهزة في الأذهان وسهلة الصياغة.
النظام الذي حكمنا وما زال، هو منظومة متكاملة وسرديّة شاملة تصبح فيها مسألة (سقوط الرئيس) تفصيلا واحدا من تفاصيل (سقوط النظام). أي ليس هناك تماهٍ بنيويّ جذريّ بين السقوطين. لأن الرئيس باعتباره (النظام) سوف يترك وراءه ظلاله الضاربة في العمق والتي تحتاج إلى عملٍ يتجاوز الشؤون العسكرية والسياسية العابرة ليصل إلى مستويات تغيير القيم والبنية الذهنية والثقافية والاقتصادية التي أصبحت صورة مطابقة للنظام.
لا شكّ أن التراجيديا السورية المهيمنة من حقها أن تفرز خطابها حتى ذاك (العموميّ)، وتحلم بأن الخلاص النهائي يكمن في رؤيتها للرئيس معتقلا ماثلا أمام محكمة لاهاي مثلا، أو في أفضل الأحوال السلمية أن يعلن استقالته وانسحابه من الحياة السياسية، فتلك أحلامٌ عادلة وشرعية. وكل ذلك يشكل دافعا رمزيا ووجدانيا محركا لمعنى الثورة، لكن الثورة نفسها لا تقف عند هذا لتعلن أنها أنجزت المهمة.
نحن نرى في السنوات الأخيرة كيف يتراشق السوريون - معارضة وموالاةً وكياناتٍ – الاتهامات فيما بينهم، ونرى الآلية التي تدار بها الحوارات أو النقاشات، لنضع أيدينا مباشرة على أنها الاتهامات والآلية التي زرعها ذلك النظام الكامل المتكامل فينا، وأجبرنا على الامتثال لها لأنه لم يترك لنا خيارات حرة في أي شأن عام ولا خاصّ. أي أن (النظام قد يخلق معارضته على شاكلته) كما يناقش البعض وهو على حقّ في ذلك، فالفساد الجذريّ تجاوز حدود المؤسسة السياسية والأمنية والثقافية ليصبح فاعلا مدمّرا ينخر في أعماق النفوس محطّما كل إمكانية خلاقة، أو مشوّها إياها في أحسن حال. لقد لوّثنا النظامُ الأسديّ بخوارزميّته!
من أجل ذلك كم على السوريين أن يعملوا ويصبروا ويعانوا بعد؟ وكم عليهم أن يفكروا بصورة مستمرة في سؤال الثورة الشامل لكي يعيدوا سرد حكايتهم المستقلة الحرة بالفعل والمتحررة من آثار (نظامٍ) ربما يحتاج إلى صفات جديدة في القاموس السياسيّ لتعطيه التعبير الدقيق عن طبيعته.