في شارة مسلسل (ابتسم أيها الجنرال) لكاتبه الأديب سامر رضوان، لقطةٌ للجنرال (الرئيس) وهو يقرأ في كتاب يحمل عنوان (Art of War) الذي أثار تساؤل بعض مشاهدين ربما لم يسبق لهم معرفة هذا العنوان وما علاقته بالجنرال، الرئيس. الكتاب هو (فنّ الحرب)، لكاتبه الصيني Sun Tzu (سون تزو). واللافت للنظر أن هذا الكتاب عمره 25 قرنا! ومع ذلك يعتبر من كلاسيكيات الكتب التي تناقش استراتيجية الحرب وخططها تعطي للقائد العسكري دليلا واضحا ليكون محاربا مثاليا وقائدا ناجحا. أما ما مسوّغ أن يقرأ الرئيس في هذا الكتاب فيتعلق الأمر بطبيعة (الحرب) التي ينظّر لها المؤلف تزو، فهي ليست حربا ذات دلالة عسكرية فقط، بل إن دلالة الحرب تتسع لتشمل الكيفية التي يدير بها الإنسان مشاريعه حتى بجوانبها الإدارية والتقنية. إن الحرب هنا هي الجهود التي يخوضها القائد في سبيل توطيد مكانته وتحقيق النجاح وتكريس ذاته القيادية حتى في حروبه السياسية والإعلامية.
والكتاب ليس دراسة أو بحثا علميا، إنه يعتمد تكنيك الكتابة في الثقافة الصينية والآسيوية بصورة عامة القائمة على التكثيف والاختزال، أو ما يعرف منهجيا بـ (أبيغراما)، التي هي أقرب للشذرات والومضات الموجزة. فكأنّ الكتاب عبارة عن مجمع أمثال وحكمٍ وخلاصات لا تخلو من البعد الفلسفي في جانب منها.
على الرغم من أن سير بعض القادة والزعماء العرب تشير إلى أنهم كانوا يقرؤون، لكن ليس هناك أي منهم من يمكن إطلاق وصف قارئ حقيقي عليه، أو مثقف، باستثناء الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي!
ولكن لماذا كان الجنرال يقرأ في هذا الكتاب؟ منطقيا سيكون الجواب: حتى يكتسب معرفة من مصدر مهمّ حول (الحرب) بمعناها الشامل عسكريا وسياسيا وأمنيا. فهل كانت أحداث المسلسل تشير إلى أن هذا الرئيس قائدٌ ناجحٌ ويحمل خلفية فكرية في حربه السياسية والقيادية؟ على الرغم من أن سير بعض القادة والزعماء العرب تشير إلى أنهم كانوا يقرؤون، لكن ليس هناك أي منهم من يمكن إطلاق وصف قارئ حقيقي عليه، أو مثقف، باستثناء الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي! لأنه كان في الأساس مثقفا وكاتبا وباحثا. ولا ندري صحة ما ينسب للزعماء من أنهم لا شك اطلعوا على كتب فنّ الحرب أو كتب سياسية أخرى فيها عروض لنظريات الحكم وأساليب التسلط والقيادة. ففي واقع الأمر تتناقض معاني الثقافة والمعرفة مع معاني الحكم خاصة في بلداننا المنهكة المضطربة الواقعة فريسة للديكتاتوريات بكل أشكالها. وتفيد وقائع المسلسل المعنيّ هنا أن شخصية (الرئيس) شخصية ربما لا ينطبق عليها وصف القلق بالمعنى المنهجي للكلمة، لكنّ فيها جانبا من الاضطراب والتذبذب منشؤه أنه شخصية غير متوازنة تحيطه شخصيات متسلطة تسعى لتحاصصه في نصيبها من البلد، وليس لتشاركه الحكم بمعنى المشاركة الديمقراطية. أي أن (الرئيس) القارئ لكتاب فنّ الحرب، وهو كتاب يخاطب قادة متزّنين أقوياء لهم كلمتهم واستراتيجيتهم الواضحة، لم يستفد شيئا من (الكتاب). حتى على صعيد أحداث المسلسل لا نرى أنه قد تماهى مع مقولة معينة أو أطروحة في الكتاب، بل هو شخص شبه أميّ في السياسة والأمن، يشعر أحيانا بالدونيّة تجاه شقيقه عاصي، الذي يبدو هو من قرأ فن الحرب! رغم أن سيرة عاصي (في الواقع) لا تشير إلى علاقة بالقراءة أو الكتب! لكن أداءه للصراع النفعيّ مع أخيه الرئيس يدلّ على خبثٍ وشراسة دموية ربما تفوقت على خطط الكتب الحربية والاستخباراتية.
اللافت للنظر أيضا وجود مقولات في بداية كل حلقة من المسلسل مأخوذة من (ماكيافلّي) المشهور بكتابه (الأمير) الذي يشاع أن كل زعيم عربي قد قرأه! أو أنه موجود قرب سرير كل زعيم عربي. في الواقع ليس مهمّا أن يكون الكلام هذا حقيقيا، لكنه يحمل دلالة على أن محتوى كتاب الأمير صالح لكي ينهل منه أي زعيم مستبدّ، وحاليا ليس هناك استبداد في العالم بالقدر الموجود في أنظمتنا العربية والشرقية بصورة عامة. لذلك فهذا الكتاب (الأمير) ما يزال حيّا بيننا حتى ولو لم يطلع عليه أي زعيم عربي. لكن وجود مقولاته في بداية كل حلقة كان ذا مغزى واضح ولا يحتاج لجهد كبير في تأويله.
إن نظرية ماكيافلّي (الغاية تبرّر الوسيلة) هي التي تعيش في أذهان معظم البشر وليس أذهان القادة فقط. فهي مقولة صارت علامة فارقة في السياسة والاقتصاد والعلاقات الفاسدة والشخصيات الانتهازية. وهي جملة ذات راهنيّة وديمومة شبه مطلقة.
ويتشابه كتاب الأمير مع كتاب فنّ الحرب للصيني (سون تزو) في نقطة أساسية هي أن الكتابين ليسا دراستين علميتين، وليسا قائمين على نظرية ذات قوام فلسفي أو أخلاقي صالح لخير البشرية، رغم أن (فن الحرب) كما أشرنا عبارة عن شذرات وحكمٍ مقتضبة بعكس (الأمير) القائم على شبه مقالات متماسكة وصفحات مطولة وليس عبارة عن مقاطع وأسطر متفرقة.
من دلالات وجود ماكيافلّي في المسلسل أن ماكيافلّي ألّف كتابه (الأمير) من أجل توعية أمير ناشئ ورث الحكم عن سلفه! كما ورث (فرات) الحكم عن أبيه! لكن هذه التوعية لا تحمل أي جانب أخلاقيّ نافع للبلاد بل هي أشبه ما يكون بإيقاظ حواس القتل والسلطة والاستبداد والعنف وعدم الرحمة، هذه الحواس النائمة في أعماق الأمير أو (الرئيس) في المسلسلِ والواقعِ. فمقولات الكتاب خطة عمل محكمة للشرّ المتجسد في الحاكم. وهذا ما يناسب الحالة السياسية التي يعالجها المسلسل والتي تستند أساسا إلى مقطع زمنيّ حسّاس من حياة سوريا.
من يعرف ولو بصورة سطحية عن أساليب حكم آل الأسد للبلاد سوف يتأكد بالكامل من مصداقية أفكار كتاب الأمير بكل ما فيها من خسّة ووضاعة وجهنّمية
قد تبدو أفكار كتاب (الأمير) نظريةً أو من خيال كاتبها. لكنها في حقيقة الأمر خلاصات ذكية ومصيبة لعمل الحاكم الشرير الانتهازيّ الذي يضع مبدأ اللا أخلاق وكأنه المبدأ الأخلاقي الوحيد في حياته. وهذه الأفكار موجودة في أواسط السلطات الديكتاتورية حتى ولو لم يأت ماكيافلّي ويضعها في كتاب. فمن يعرف ولو بصورة سطحية عن أساليب حكم آل الأسد للبلاد سوف يتأكد بالكامل من مصداقية أفكار كتاب الأمير بكل ما فيها من خسّة ووضاعة وجهنّمية. ونعتقد أن ماكيافلّي لو عاش في سوريا (الأسد) لكان ذهل ذهولا شديدا للتطبيق الحرفي الفائق الدقة لأفكاره ليس من قبل (الرئيس) وحده، بل من قبل كل شخص يشترك معه في اقتسام السلطة التي تعتبر البلاد شركةً منتجة أو مشروعا ربحيّا وافرا ومن حقهم أن يكونوا شركاء في هذا الاقتسام، وهذا ما نراه واضحا من تصريحات (عاصي) عدة مرات لأخيه أو لأمه من أنه شريك أساسيّ لفرات! بل سوف يرفع ماكيافلّي القبعة لآل الأسد لتنفيذهم الحرفي لوصاياه القاتلة، بل كل الظنّ أنه سوف يستمدّ منهم ومن خططهم ما يضيفه إلى كتابه!
النقطة الأخرة التي لها مغزى ودلالة مهمة، هي أن الصينيّ سو تزو ليس الوحيد الذي كتب (فنّ الحرب)، بل إن ماكيافلي الآخر له كتاب يحمل العنوان ذاته (فن الحرب)! وهو كتاب يقال إن قادة الحروب في أوروبا وأميركا تأثروا به واستلهموا من مضمونه الكثير. بل إن موسوليني قال إنه يحترم ماكيافلّي كثيرا ويتمنى لو قرأ كل ما كتبه! حتى إن فولتير قال: ((لقد علّم ماكيافلّي أوروبا فنّ الحرب الذي نمارسه منذ زمن طويل دون أن نعرفه)).
السؤال الآن: ما العلاقة بين سلوك (الرئيس) في المسلسل و(الحرب) الواردة في الكتابين اللذين يحملان الاسم نفسه (فنّ الحرب)؟ لقد كان همّ الرئيس الحرب الداخلية والحرب مع قيادته والمتطلعين إلى مشاركته نصيبهم من البلد. ولا وجود لحربٍ تحدث عنها صاحب كتاب الأمير، وكأن المقولات المأخوذة منه تلاشت أو انصهرت بمفهوم الحرب التي تحدث عنها الكتابان المذكوران. فالحرب عند ماكيافلّي هي أيضا ليست فقط حربا ومعارك خارجية بل هي فنّ قيادة وإدارة صراعات داخل الحكم نفسه وكيفية التعامل مع (الرعية) ورجال الجيش والسلطة ومراقبتهم والانقضاض على الخطير منهم، أو كيفية توزيع المناصب فيما بينهم ليبقى الحكم مستتبّا لشخص واحد. وهذا بالضبط فحوى كتاب (الأمير) أيضا! وهذا أيضا ما دار في مجريات المسلسل بشكل واضح.
نحن نتحدث عن مفهوم (الرئيس) في المسلسل وليس رئيسا بعينه، فالكاتب تعمّد جمع شخصيتي حافظ وابنه في شخص واحد، (أو ما يفترض أنه كذلك) كما جمع عدة شخصيات أخرى في شخص واحد لكي يشمل دراميا عدة أحداث مفصلية في البلد. والمشاهد الذكي اكتشف أنه تارة أمام حافظ وتارة أخرى أمام ابنه، لكن الاثنين ينحدران من شهوة السلطة والتملّك نفسها، والاثنان ينطبق عليهما ما جاء في كتابي الأمير وفنّ الحرب.