احتلت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق حيزاً كبيراً من التغطية الإعلامية العالمية والعربية لما تحمله من رمزية وأهمية بالغة ليس على مستوى العراق ومسيحييه بل على مستوى الشرق الأوسط.
وفي ختام زيارته التاريخية إلى العراق، عبّر البابا فرنسيس عن الهدف الجوهري لها عندما ختم زيارته في ملعب امتلأ بآلاف المصلين أثناء إحياء قداس احتفالي كبير في أربيل بإقليم كردستان، حيث دعا "إلى السلام" وإلى "تعاون الطوائف في خدمة الصالح العام"، قائلاً "سأغادر إلى روما، لكن العراق باقٍ دائماً معي وفي قلبي".
اقرأ أيضاً: الفاتيكان: سوريا عبارة عن قرى أشباح والسوريون فقدوا الأمل
مسيحيو العراق يعقدون آمالاً على زيارة البابا
لطالما اعتبر العراق بلداً تاريخياً للكثير من الديانات، ومنها الديانة المسيحية التي تواجد معتنقوها فيه منذ ألفي سنة، بل يقول الإنجيل إن الموقع الأثري أور، حيث صلى البابا خلال زيارته، هو مكان مولد النبي إبراهيم، الذي تحمل الديانات السماوية الثلاث اسمه.
واليوم ومع زيارة البابا، عقد عدد من مسيحيي العراق وفق ما رصد موقع تلفزيون سوريا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، آمالاً كبيرةً على هذه الزيارة، لجهة تسليط الضوء على ما اعتبروه معاناة للأقلية المسيحية، في حين شكك آخرون في فاعلية الزيارة، معتبرين أن أثرها سيبقى محدوداً لأنَّ البابا لم يطّلع على حقيقة الوضع.
ماتي وردة وهو رئيس أساقفة في مدينة إربيل، يقول في مقابلة تلفزيونية، "الأكيد أن زيارة البابا لن تساعد البلد كثيراً"، ويضيف "المسيحيون في العراق يعيشون في ظل نظام سياسي واقتصادي فاسد، وأن البابا سيسمع كلمات جميلة، لكن عندما يتعلّق الأمر بالحياة اليومية، فالأمر سيكون مختلفاً عن هذه الكلمات".
رئيس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، الكاردينال العراقي لويس رافائيل ساكو، قال لوكالة الأنباء الألمانية، "إنها لحظة صعبة جداً. سوف تكون زيارة البابا ذات مغزى بسبب الوضع الذي نحن فيه، لا نعيش وضعاً طبيعياً، ولذلك، فنحن متأثرون كثيراً بهذه الزيارة".
من جهته، علّق نائب الرئيس العراقي السابق، طارق الهاشمي، على هذه الزيارة قائلاً "في زيارته للعراق اعتنى البابا بهموم المسيحيين العراقيين، وهذا متوقع بحكم موقعه الديني كزعيم للكاثوليك في العالم ورغم أنه لم يتجاهل أزمات العراق المعروفة، أو الإشارة إلى القيم الإنسانية النبيلة، كالتعايش والسلام والعدالة، فإن البعض أراد منه أن يأتي ومعه كرامات سيدنا عيسى وعصا سيدنا موسى".
غير أن هناك من يرى أن زيارة البابا سيكون لها تأثير إيجابي على المدى البعيد، وفي هذا السياق وصف وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي، حسن ناظم الزيارة بأنها محطة لحوار الأديان، مؤكداً أنها ستكون فرصة للقاء الأديان في العراق، فهناك المسلمون والمسيحيون والصابئة المندائيون وأيزيديون.
من جهته، قال ماتي وردة إن "غالبية المسلمين سينظرون لها بإيجابية، وسيستمعون وسيبدؤون في الغوص أكثر في تاريخ البلد لطرح تساؤلات من قبيل من هم هؤلاء المسيحيون، هل هم غير مؤمنين كما سمعنا على الدوام؟ ما مساهماتهم؟ هذه هي الاستفادة على المدى الطويل".
وفي خطبته في الملعب قال البابا "نؤكد قناعتنا بأن الأخوّة أقوى من صوت الكراهية والعنف".
وكان البابا التقى في اليوم الثاني لزيارته، في مدينة النجف المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، الذي أعلن اهتمامه بـ "أمن وسلام" المسيحيين العراقيين، ووصف الكثيرون هذا اللقاء بـ "التاريخي".
وخلال ثلاثة أيام حافلة بالتنقلات بالطائرة والمروحية وسيارة مصفحة، يشهد توترات أمنية ناتجة عن وجود ميليشيات خارجة عن سلطة الدولة، زار البابا محافظة نينوى حيث صلى على أرواح "ضحايا الحرب" في الموصل. كما زار قرقوش، البلدة المسيحية التي نزح كل أهلها خلال سيطرة تنظيم "الدولة" بين 2014 و2017، وعاد جزء منهم خلال السنوات الماضية.
واكتست هذه المحطة أهمية كبرى، لا سيما أن محافظة نينوى وعاصمتها الموصل، تشكّل مركز الطائفة المسيحية في العراق، وقد تعرّضت كنائسها وأديرتها التراثية العريقة إلى دمار كبير على يد التنظيم المتطرف.
وقال البابا في كلمته في الموصل "إنها لقسوة شديدة أن تكون هذه البلاد، مهد الحضارات قد تعرّضت لمثل هذه العاصفة اللاإنسانية التي دمّرت دور العبادة القديمة".
تراجع أعداد المسيحيين في العراق
أدى الوضع الأمني المتهلهل في العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003 وما تبعه من اقتتال داخلي وهيمنة إيران على السلطة في البلاد وظهور تنظيم "الدولة"، إلى هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين، خصوصا من الموصل والمناطق المحيطة بها.
وتُرجمت معاناة المسيحيين في العراق في تراجع أعدادهم، فمن 1.4 مليون مسيحي عام 1987 إلى ما بين 200 و 300 ألف حاليا في البلد ككل، إذ أدت الأوضاع الأمنية إلى هجرة عشرات الآلاف.
وقال البابا خلال زيارته وهو يقف وسط أنقاض الكنائس الأربع في مدينة الموصل "إن نزوح المسيحيين عن العراق والشرق الأوسط عموما سبّب ضررا جسيما ليس للأشخاص والمجموعات المسيحية، بل للمجتمعات التي تركوها خلفهم أيضا".
ولا تعد هجرة المسيحيين من بلدانهم العربية مقتصرة على العراق فقد لحق ذلك بالسوريين واللبنانيين وغيرهم.
ونُشر تقرير لـ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تشرين الأول 2017، تحدث عن أبرز القضايا والإشكاليات التي بحثها مؤتمر "المسيحيون العرب في المشرق العربي الكبير: عوامل البقاء، والهجرة، والتهجير"، الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مقره في الدوحة، حينئذ، وجاء في التقرير أن الأنظمة الاستبدادية في المشرق العربي استعملت المسألةَ المسيحية؛ لتقدّم نفسها على أنها أنظمة علمانية تحمي الأقليات الدينية من خطر المتشددين الإسلاميين، ولتطمس الفكرة القائلة بأن الانغلاق السياسي الذي خلّفته كان أحد العوامل التي أدّت إلى هجرة المسيحيين.
قرأ أيضاً: البابا والسيستاني يبحثان "تحديات الإنسانية" ومعاناة الفلسطينيين
رسالة سلام وزيارة تاريخية
وصف المتحدث باسم الفاتيكان، أتيو بروني، زيارة البابا للعراق بـ "رحلة لها طابع خاص نظرا للظروف الصحية والأمنية"، معتبراً أنها مبادرة "حبّ وسلام لهذه الأرض وهذا الشعب".
ودعا البابا فرنسيس، بعد وصوله إلى العاصمة العراقية بغداد، المجتمع الدولي لأداء دور حاسم في تعزيز السلام في العراق وكل الشرق الأوسط.
وقال في كلمة ألقاها أمام رئيس الجمهورية العراقية، برهم صالح، في قصر بغداد "إن التحديات المتزايدة تدعو الأسرة البشرية بأكملها إلى التعاون على نطاق عالمي لمواجهة عدم المساواة في مجال الاقتصاد، والتوترات الإقليمية التي تهدد استقرار هذه البلدان".
وأضاف "فلتصمت الأسلحة"، "وليكن الدين في خدمة السلام والأخوّة". كما شجع الخطوات الإصلاحية المتخذة في العراق، ودعا إلى ضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية، مؤكداً على ضرورة التصدي لآفة الفساد واستغلال السلطة.
واعتبر مراقبون أن الزيارة تشكل ترجمة حقيقية فعلية لوثيقة "الأخوّة الإنسانية"̍، التي تم توقيعها مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب في أبوظبي في شباط 2019، مؤكدة في بنودها الأساسية على حرية المعتقد، واحترام هوية كل ديانة.
أيضاً هناك من اعتبر أن الزيارة البابوية تحمل أبعاداً تتجلى في مجيئه إلى بغداد والنجف وذي قار ونينوى وإقليم كردستان، ما يشكل مجازفة للبابا لم يسبقه إليها أي زعيم روحي، في ظل المخاطر الأمنية التي تحدق بالعراق، وفي ظل تفشي وباء كورونا الذي بسببه لم يغادر البابا الفاتيكان منذ أكثر من عام، لكنه برغم ذلك، صمّم على المجيء إلى العراق.
اقرأ أيضاً: بابا الفاتيكان يناشد لتوفير المساعدة للاجئين السوريين قبل عودتهم