انتهت مرحلة استشفاء النسبة العظمى من مصابي الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا بعد مرور خمسة أشهر، لتظهر مسألة غياب الأطراف الصناعية عن أولئك الذين فقدوا أطرافهم تحت أنقاض منازلهم، وهي أزمة عانى فيها السوريون على مدار سنوات، فما إن هدأ القصف في سوريا والتقطت مراكز الأطراف الصناعية في تركيا أنفاسها، حتى جاء الزلزال المدمر ليعيد حكاية السوريين مع البتر وقلة الدعم في هذا القطاع.
اللحظات العصيبة المليئة بالآلام والخوف والقهر لحظة انتشال الناجين من تحت أنقاض منازلهم في الولايات الجنوبية التركية لم تنته بالنسبة لآلاف الأتراك واللاجئين السوريين الذين بترت أطرافهم، فالخروج من المستشفى بأجساد منهكة وهزيلة بعد أشهر من العمليات الجراحية لترميم الإصابات وإغلاق جرح البتر؛ يعني بالنسبة لهؤلاء رحلة أخرى في المجهول ونجاة منقوصة من الزلزال المدمر، فالقطاع الطبي الذي كافح طوال الأشهر الماضية واستنزف في التعامل مع 108 آلاف جريح، لم يعد قادراً على تأمين أطراف صناعية بسبب ارتفاع تكاليفها.
قابل موقع تلفزيون سوريا في زياراته الميدانية للمستشفيات التركية خلال الأشهر الخمسة الماضية عشرات المصابين السوريين، بينهم 16 حالة بتر لطرف أو أكثر. انتهت مراحل العلاج والاستشفاء لدى قسم كبير من هؤلاء، لتبدأ رحلة البحث عن طرف صناعي، وهي أزمة سبق أن تطرق إليها تقرير لموقع تلفزيون سوريا عن مصابي الحرب في تركيا، حيث تسبب قصف النظام السوري وحلفائه بعشرات آلاف البتر، أسعفت إلى تركيا لتلقي العلاج ومن ثم الحصول على طرف صناعي، إلا أن النقص الهائل في الدعم الحكومي والأممي للمنظمات الطبية لهذا القطاع في السنوات الماضية، جعل إمكانية الحصول على طرف صناعي مهمة شبه مستحيلة.
فتح الزلزال المدمر فصلاً جديداً من فصول المأساة التي ستضرب عميقاً في أجساد ونفسيات أولئك الذين فقدوا أطرافهم، وستطول أسراً بكاملها في حال كان المصاب معيلاً لأسرته، وتضاعف الانتكاسة النفسية للعائلات السورية في تركيا التي خسرت كل شيء في أقل من دقيقة، وباتت في ضياع كامل، لا تعرف كيف وأين تبدأ حياة جديدة، ولا تملك المبلغ الكافي لتداوي جراحها بنفسها، وملزمة بالعودة إلى الولاية التي حصلت منها على بطاقة "الحماية المؤقتة" (الكيملك) بعد أن أوقفت رئاسة الهجرة التركية تجديد أذون السفر.
روى موقع تلفزيون سوريا قصة الطفلة بتول المؤلمة في تقرير قبل الزلزال حمل عنوان "مصابات الحرب السوريات في تركيا.. العيش في الحد الأدنى مع آلام ودعم لا يذكر"، واستعرض التقرير جهود "منظمة خطوات الإرادة" الطبية، لتتواصل المنظمة بعد التقرير مع والدة الطفلة بتول وتبدأ بتركيب طرف صناعي لها.
بدأت الطفلة السورية بتول عملية التحضير لتركيب الطرف الصناعي مطلع العام الجاري في مركز "خطوات الإرادة" في مدينة غازي عنتاب حيث تقيم، إلا أن مركز غازي عنتاب أغلق مؤقتاً بسبب الزلزال، في حين يتواصل العمل في مركزي إسطنبول ومدينة الباب شمالي سوريا.
في الفترة التي كانت تزور فيها الطفلة السورية بتول (8 سنوات – مقيمة في مدينة غازي عنتاب) التي فقدت قدمها عام 2015 بقصف للنظام السوري على مدينة حلب، مركزاً لتركيب الأطراف الصناعية في مدينة إسطنبول، وصلت الطفلة السورية غنى من مدينة أنطاكيا إلى المركز ذاته بعد أن فقدت طرفها السفلي في الزلزال المدمر.
وشاهدت والدة غنى صورة تم نشرها لتركيب طرف الطفلة بتول، والتي كانت تتشابه إلى حد كبير مع إصابة طفلتها، فأرسلت طلباً على رابط التسجيل لدى المنظمة، وبدأت بعدها بعملية الاستشفاء من أجل تركيب طرف لطفلتها غنى التي فقدت والدها وأخاها بالزلزال.
بحاجة لتدخل حكومي.. حمل كبير على مراكز خيرية ومنظمات طبية
وقالت الدكتورة رنيم الشيخ سيدو مسؤولة العلاج الطبيعي وإعادة التأهيل في منظمة خطوات الإرادة: أطلقنا حملة "ذوو الإرادة" لمتضرري الزلزال الذين فقدوا أطرافهم، سواء من حملة بطاقة الحماية المؤقتة أو الإقامة السياحية أو المواطنين الأتراك، وبدأ المرضى بالتسجيل على رابط خاص بالحملة.
وأوضحت الدكتورة في حديثها لموقع تلفزيون سوريا أن المنظمة تواصلت مع المسجلين وقدمت لهم التعليمات والتمارين التي يجب تنفيذها خلال فترة التعافي والاستشفاء، وهي مرحلة حساسة تسبق مرحلة تركيب الطرف وتركز على الحفاظ على الجزء المتبقي من الطرف من دون ترهلات.
تهدف حملة "ذوو الإرادة" لتصنيع وتركيب 500 طرف صناعي لمتضرري الزلزال، واكتملت عملية تركيب الأطراف لـ 55 مريضاً عربياً و65 مريضاً تركياً ضمن حملة "ذوو الإرادة"، حيث يحصل المصاب على موعد للمعاينة من قبل طبيب مختص في العلاج الفيزيائي وفني تركيب الأطراف، حيث يتم تقييم الحالة واختيار نوع الطرف المناسب، مع مراعاة عدة عوامل مثل الفئة العمرية للمريض وحالة العضلات وطول الطرف المتبقي.
لا تقتصر خدمات "منظمة خطوات الإرادة" على المقيمين في إسطنبول بل تشمل جميع المرضى في تركيا، ويقدم خدمات مساعدة مثل استخراج إذن السفر لحاملي بطاقة الحماية المؤقتة، وخدمات العلاج الفيزيائي قبل تركيب الطرف أو بعده، من خلال تمارين التوازن وتعليم المريض استخدام الطرف وتمارين الإدراك العميق كي يتقبل الدماغ وجود الطرف الجديد.
لم تصرح الحكومة التركية عن عدد حالات البتر لدى مصابي الزلزال، وبحسب الرابطة الدولية للأطباء (AID) فإن ما يقرب من 1300 طرف قد فقدت لدى 850 شخصاً، وتقدر الصحف التركية عدد حالات البتر بأكثر من ألفي حالة، بينهم 800 طفل بحسب حملة cocukprotez التركية لجمع التبرعات. هذه الجهود من المنظمات غير الحكومية السورية والتركية لا تكفي لتحمل العبء الكبير، كما أن المصابين أنفسهم لا يملكون ثمن الطرف الصناعي الذي لا يقل ثمنه عن 5 آلاف دولار وهو أقل الأنواع جودة ولا ينصح الأطباء بتركيبه، في حين يصل سعر الطرف الذكي إلى 15 ألف دولار أميركي.
وتتحدث وسائل إعلام تركية كل حين عن نجاح تركيب طرف صناعي لشاب أو سيدة أو طفل في مراكز تركيب أطراف تابعة لمنظمات خيرية أو جامعات تركية، وكأنها قصص نجاح فردية.
وقال ثلاثة مرضى سوريين فقدوا أطرافهم في حديثهم لموقع تلفزيون سوريا إنهم خرجوا من المستشفيات بعد البتر والتعافي، لكنهم عندما طلبوا طرفاً صناعياً من المستشفيات الحكومية تم إبلاغهم بأن التأمين الصحي للاجئين السوريين في تركيا من قبل "مؤسسة الضمان الاجتماعي - SGK"، لا يشمل الأطراف الصناعية، وهو تأمين صحي ممول من الاتحاد الأوروبي ويتيح للسوريين التداوي والعلاج من خلاله بالمجان في المستشفيات الحكومية.
وقال أحد المصابين ببتر لموقع تلفزيون سوريا إن مستشفيات الدولة تقول لجميع المراجعين المتقدمين بطلب للحصول على طرف صناعي إنه لن يتم تركيب أطراف صناعية قبل 6-9 أشهر.
لا يبدو أن الجهود غير الحكومية قادرة على تغطية ربع الاحتياجات، ولذلك يجب على الحكومة التركية أن تتكفل بهذه المهمة، إلا أنه وبحسب آخر تقييم مشترك للاحتياجات بين الحكومة التركية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تم تخصيص مليونين ونصف المليون دولار أميركي فقط لتوفير الأجهزة التعويضية وخدمات إعادة التأهيل والتكامل لمبتوري الأطراف، وهو مبلغ لا يكفي لتركيب أطراف صناعية لـ 200 مصاب فقط.
هل تهمل المستشفيات التركية المصابين السوريين؟
وصلت العديد من الشكاوى إلى موقع تلفزيون سوريا شكاوى بأن المستشفيات التركية سرعت في عملية تخريج مصابي الزلزال وفاقدي الأطراف قبل اكتمال تعافيهم، بمزاعم أنهم سوريون، فأجرى موقع تلفزيون سوريا زيارات ميدانية للمستشفيات الحكومية وقابل سوريين ما زالوا يتلقون العلاج ويتعافون حتى كتابة هذا التقرير.
ولتوضيح المعطيات والعوامل التي يبنى عليها قرار تخريج المريض من المستشفى، قال طبيب العظمية المختص جمال بيلساني لموقع تلفزيون سوريا إن مدة إقامة مريض البتر في المستشفى تختلف من حالة إلى أخرى وتعتمد على عدة عوامل مثل الحالة العامة للمريض ونتائج التحاليل المخبرية ووضع الالتهابات في مكان الجرح، فبعض المرضى يحتاجون لعدة جلسات تنظير للأنسجة المتموتة قبل إغلاق الجرح وبعض المرضى عانوا من متلازمة الهرس التي قد تسبب قصوراً كلوياً أو مشكلات في الوظائف الكلوية.
وكشف تقرير لمنظمة العفو الدولية أن الأشخاص ذوي الإعاقة من جراء الزلزال في تركيا يعيشون في ظروف مخيمات غير ملائمة ويتعرضون للخطر بسبب نقص الأجهزة المساعدة مثل الكراسي المتحركة، ونقص مرافق الصرف الصحي والدعم المتخصص.
إذن السفر.. أزمة أخرى تلغي العلاج المجاني للسوريين
تحدثت السيدة السورية ندى المقيمة في إسطنبول عن تجربة علاج أختها فدوى التي تم نقلها إلى إسطنبول لتلقي العلاج بعد أن فقدت الطرفين السفليين وكل أفراد عائلتها في الزلزال، وتقول ندى إن تجربتهم بتلقي الدعم الصحي لم تكن كافية ولم ترق إلى مستوى تلبية احتياجات الحالة الصحية لفدوى التي تم تخريجها من المستشفى، لتتفاجأ في اليوم التالي عند زيارتها للمستشفى لتغيير ضمادات الجروح أن التأمين الصحي لا يعمل بسبب عدم وجود إذن سفر، ولم يقدم المستشفى أي شكل من أشكال الدعم الذي يساعد فدوى على الحركة والتنقل من أجل التغيير اليومي على جروحها.
ومن الجدير بالذكر أن الناجين من الزلزال الذين غادروا ولاياتهم، لا يحصلون على الخدمات الصحية في الولاية التي قصدوها، إن لم يكن لديهم وثيقة إذن السفر، وهي وثيقة إقامة مؤقتة توقفت رئاسة الهجرة التركية حديثاً عن منحها للسوريين، بهدف الضغط على الناجين للعودة إلى مدنهم المدمرة.
تقول ندى راقبت طريقة تنظيف الجروح وإعطاء الحقن تحت الجلد، وبدأت أنا بمساعدة أختي من المنزل لأننا لم نستطع تحمل تكاليف التنقل، ومن المؤسف أن إذن السفر الذي حصلت عليه فدوى بعد عناء لم يعد صالحا ورفضت الهجرة التركية تجديده، والوضع الصحي وغياب المعيل لفدوى والإعاقة التي تسببت بها الإصابة تجعل العودة إلى مدينة أنطاكيا أمراً مستحيلاً.
يبدو أن الحكومة التركية التي تتعامل مع كارثة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة ترتّب أولوياتها بشكل يجعل فئة مبتوري الأطراف في آخر القائمة، ولذلك تسعى المنظمات الطبية والمؤسسات الخيرية قدر المستطاع لتأمين أطراف صناعية، إلا أن هذه الجهود لن تكفي إلا نسبة قليلة، في حين سيضطر مبتورو الأطراف إلى التعامل مع ظروف قاسية وحالة نفسية لا تساعدهم على تجاوز الكارثة والفقد واللحظات العصيبة، ويخشى السوريون أن يكونوا آخر الحاصلين على طرف صناعي كونهم من أكثر الفئات المستضعفة في البلاد.
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من "صحفيون من أجل حقوق الإنسان - JHR"