وجد تحقيق أجرته مؤسسة "طومسون رويترز" أن ما لا يقل عن 250 مليون دولار من مساعدات الأمم المتحدة الإنسانية المخصصة للاجئين السوريين والفلسطينيين والمجتمعات الفقيرة في لبنان ضاعت لصالح البنوك التي تبيع العملة المحلية بأسعار غير مواتية على الإطلاق.
وأوضح معد التحقيق الصحافي تيمور أزهري أن ضياع تلك الأموال، التي وصفتها وثيقة داخلية للأمم المتحدة بأنها مذهلة وأكدتها مصادر متعددة، يأتي في الوقت الذي يواجه فيه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية على الإطلاق، حيث أصبح أكثر من نصف السكان يعيش تحت خط الفقر.
وتنبع هذه الأزمة من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية منذ أن بدأ الاقتصاد في الانهيار أواخر العام 2019، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار ودفع العديد من اللبنانيين إلى الفقر، كما أثرت أسعار الصرف غير المواتية التي تقدمها البنوك اللبنانية على اللاجئين (السوريين والفلسطينيين) واللبنانيين الفقراء بشكل خاص، لأنهم باتوا قادرين على شراء كميات أقل بكثير بالمساعدات النقدية التي يتلقونها من الأمم المتحدة.
وأشار التحقيق إلى أنه قبل الأزمة كان اللاجئون يتلقون تعويضات شهرية قدرها 27 دولاراً، أي ما يعادل نحو 40500 ليرة لبنانية، من برنامج الغذاء العالمي، وارتفع هذا المبلغ الآن إلى نحو 100 ألف ليرة لبنانية، لكن قيمته الحقيقية الآن هي جزء بسيط مما كان عليه من قبل، نحو 7 دولارات بالسعر الحالي.
50 % من قيمة المساعدات ابتلعتها المصارف اللبنانية
ونقل التحقيق عن مسؤول إغاثة ودبلوماسيين من الدول المانحة، من دون أن يسميهم، قولهم إنه "ما بين ثلث ونصف المساعدات النقدية المباشرة للأمم المتحدة في لبنان قد ابتلعتها البنوك منذ بداية الأزمة في العام 2019".
وقال مسؤول الإغاثة إنه خلال العام 2020 والأشهر الأربعة الأولى من العام 2021، صرفت البنوك اللبنانية الدولارات لوكالات الأمم المتحدة بمعدلات أقل بنسبة 40 % في المتوسط من سعر تداول السوق.
في حين أبقى لبنان على سعر صرف رسمي يبلغ نحو 1500 ليرة لبنانية للدولار، لكن منذ الأزمة لم يتمكن من تطبيق هذا السعر إلا على حفنة من السلع الأساسية، بينما يجب شراء جميع الواردات الأخرى بأسعار صرف أعلى بكثير، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
ووفق التحقيق، جاءت معظم الخسائر من برنامج مساعدات الأمم المتحدة لعام 2020 بقيمة نحو 400 مليون دولار، والذي يوفر تمويلاً شهرياً للغذاء والتعليم والنقل ومقاومة الطقس الشتوي وللملاجئ لنحو مليون لاجئ سوري في لبنان، حيث تلقّى لبنان ما لا يقل عن 1.5 مليار دولار من المساعدات الإنسانية في العام 2020.
وقدر تقييم داخلي للأمم المتحدة، في شباط الماضي، أن البنوك اللبنانية استوعبت ما يصل من نصف قيمة برامج المساعدات التي استخدمتها الأمم المتحدة لتحويل التبرعات بالدولار الأميركي.
وقالت الوثيقة، التي اطلعت عليها مؤسسة "طومسون رويترز"، إنه بحلول تموز 2020، ضاعت نسبة تبلغ 50 % من التبرعات والإسهامات من خلال تحويل العملات.
250 مليون دولار خسائر المنظمات الأممية
وقارن التحقيق معدلات تحويل البنوك للدولار الأميركي في عامي 2020 و2021 مع أسعار الصرف الفعلية المتزامنة في السوق لحساب مقدار المساعدات المفقودة.
ووجد التحقيق أن الخسائر بلغت نحو 200 مليون دولار في 2019 و2020، وما لا يقل عن 40 مليون دولار حتى الآن في 2021.
وتتماشى الأرقام التي خلص إليها التحقيق مع التقييم الداخلي للأمم المتحدة، وتم التحقق منها بشكل مستقل من قبل مسؤولي الإغاثة.
وقال متحدث باسم منظمة "اليونيسف" إن الوكالة "قلقة للغاية فيما إذا المستفيدون يتلقون القيمة الكاملة للتحويلات النقدية، وتم التفاوض أخيراً للحصول على سعر قريب من سعر صرف السوق"، مضيفاً أنهم "يختبرون أيضاً الصرف بالدولار لبعض البرامج".
في حين أكد متحدث باسم برنامج الأغذية العالمي أن تمويل البرنامج للمساعدات النقدية الشهرية المخصص لـ 105 آلاف لبناني محتاج، بقيمة 23 مليون دولار العام الماضي، استخدمت أسعار الصرف غير المواتية نفسها، مما يعني أن ما يصل إلى نصف الأموال فقدت لصالح البنوك.
وأحال برنامج الأغذية العالمي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين معد التحقيق إلى مكتب منسق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، الذي رفض التعليق على أسباب هذه الخسائر الفادحة.
في حين قال متحدث باسم وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إن ما بين ثلث ونصف المساعدة التي وزعتها الوكالة منذ تشرين الأول 2020، التي تصل إلى 7 ملايين دولار، ضاعت بسبب تحويل العملة.
وبلغت الخسائر الموثقة من برامج "لويز" وبرنامج "الأغذية العالمي" و"الأونروا" ما لا يقل عن 250 مليون دولار، منذ تشرين الأول من العام 2019.
المصارف ترفض التعليق
من جانبها، نفت جمعية مصارف لبنان، التي تمثل البنوك التجارية العاملة في البلاد، استخدام المساعدات الإنسانية في زيادة رأس المال.
وقالت الجمعية إن الأمم المتحدة كان بإمكانها أن توزع المساعدات" بالدولار، أو تتفاوض على سعر أفضل مع البنك المركزي اللبناني، في حين لم يرد متحدث باسم البنك المركزي على طلب "رويترز" للتعليق على أسعار الصرف المقدمة للمنظمات الإنسانية.
كما رفض البنك اللبناني الفرنسي، الذي تعاقدت معه وكالات "لويز" الإنسانية لتقديم المساعدات، التعليق على معدلات صرف العملات غير المواتية، مؤكداً أنه ملتزم باتفاقية سرية معها، مكرراً ما قالته جمعية المصارف أنه كان بإمكان الوكالات أن توزع الأموال مباشرة بالدولار الأميركي.
الدول المانحة تبحث عن شريك لا يحصي "مصروف الجيب"
أشار التحقيق إلى أنه في مواجهة نظام مالي حريص على امتصاص أكبر عدد ممكن من الدولارات، كافح المانحون ووكالات الأمم المتحدة لتطوير نهج متماسك يحافظ على القيمة الفعلية الكاملة للمساعدات الإنسانية.
وسيحافظ توزيع المساعدات بالدولار الأميركي "الدولرة"، التي تمت التوصية بها في التقييم الأممي الداخلي لشهر شباط، وضغطت من أجلها الدول المانحة والمحللون المستقلون، على القيمة الكاملة للتبرعات للمستفيدين بغض النظر عن التقلبات في أسعار العملات.
لكن السلطات اللبنانية تقاوم جهود "دولرة" تدفقات المساعدات الإنسانية، سعياً منها للحفاظ على سيطرتها على أحد المصادر القليلة للحصول على العملة الصعبة في البلاد.
وأكد التحقيق أن صبر الدول المانحة وخوفها من الإضرار بالسمعة المرتبط بالملايين من أموال دافعي الضرائب التي تمتصها البنوك بدأ ينفد.
ونقل عن دبلوماسي غربي طلب عدم الكشف عن هويته، أنه "كنا مستعدين للاستثمار في مساعدة الناس، لكننا بحاجة إلى شريك موثوق به لا يحصي مصروف الجيب، الذي نتحمل نحن المسؤولية عنه في النهاية".
وقال أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، جاد شعبان، إن المنظمات الدولية العاملة في لبنان "غالباً ما تسير على مسار ضيق بين تقديم التنازلات في بيئة سياسية صعبة والالتزام بمعايير المساءلة".
وأضاف "في هذه الحالة، هذا غير مقبول ويجب أن تكون هناك معايير أعلى من ذلك بكثير"، مشيراً إلى أنه "نحن نشهد فعلياً نفس الديناميكية التي يمارسها المقاولون أو أصدقاء العمل بالأموال التي حصلوا عليها لبناء مدرسة أو مشروع بنية تحتية"، مؤكداً أنه "وفي الوقت الحالي، كل سنت مهم للبنان".