تكشف تطورات الشهور الأخيرة عن اتساع هوة الخلاف بين روسيا وإيران في الملف السوري. وفي ظل تسريبات إسرائيلية عن "ضوء أخضر" روسي لمواصلة ضرب الأهداف الإيرانية ضمن تفاهمات جديدة توصل إليها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمتهما الأخيرة في سوتشي في 22 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يبدو أن الأمور تسير إلى صراع حتمي ينهي "زواج مصلحة" استمر أكثر من ست سنوات، سعى خلاله الطرفان إلى التغطية على أن تحالفهما يحمل طابعا تكتيكيا مؤقتا وضعيفا يشبه نظرا لتضارب مصالحهما وأهدافهما في سورية ومنطقة الشرق الأوسط عموما.
وذهبت تسريبات في السنوات الأخيرة إلى أن القائد السابق لما يسمى "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، التقى بوتين سراً في صيف 2015 أي قبل أشهر من أول تدخل روسي خارج دائرة الاتحاد السوفييتي السابق، وطلب منه التدخل في وقت كان يفقد فيه نظام بشار الأسد وحليفه الإيراني زمام المبادرة، وظهرت حينها مؤشرات جدية ومتسارعة عن قرب انهيار النظام. وبعيداً عن صحة هذه التسريبات، فالواضح أن موسكو انتهزت ضعف النظام والإيرانيين ورأت في ذلك فرصة سانحة للإمساك بالملف السوري، ما سمح بشكل أو آخر لروسيا بأن تُقْدم دون عوائق جدية على التدخل العسكري في سوريا بشكل مباشر ومعلن، بعد أن تدخلت منذ بداية الأزمة من خلال دعم دبلوماسي للنظام واستخدام الفيتو لمنع معاقبته، إضافة إلى إرسال مرتزقة "فاغنر".
انعطافه وتغيرات جذرية
مثَّل التدخل العسكري الروسي نقطة انعطاف حاسمة في مسار الأزمة السورية، غيَّرت من علاقات موسكو مع البلدان العربية والقوى الإقليمية المحورية، وفتحت الباب أمام تغيرات جذرية في العلاقات الروسية الإيرانية، جمعت البلدين تحت هدف إنقاذ النظام، وزادت من تنسيقهما على المستويات السياسية والعسكرية في الملف السوري ككل بشكل لافت. وكانت محفزا لتعميق العلاقات في مجالات أخرى، بعضها غير مرتبط مباشرة بالصراع السوري.
واستطاع الطرفان تحقيق "مكاسب" كبيرة على الأرض باستعادة النظام مناطق واسعة كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، وانتزاع مكاسب اقتصادية ولوجستية، وتعطيل أي حلول سياسية للأزمة السورية على أساس القرارات الدولية ذات الصلة، وخاصة قرار مجلس الأمن رقم 2254. كما أفرغت روسيا وإيران جهود الأمم المتحدة من مضمونها، وكرَّستا مسار "صيغة أستانا" كبديل لها، ومارستا شتى أنواع الألاعيب لكسب الوقت ومحاولة إعادة تسويق نظام بشار الأسد.
ويتفق الطرفان على تشجيع النظام للدخول في عملية سياسية مجتزأة، لا يمكن أن تؤدي إلى حل سياسي يرضي الشعب السوري، ويطمحان إلى حل يضمن بقاء النظام الحالي مع إصلاحات أدنى بكثير من مطالب السوريين.
إلا أنه، ورغم حرص الطرفين بشكل دائم على نفي وجود خلافات جوهرية بينهما في إدارة الأزمة، شكَّلت التطورات اللاحقة واستحقاقاتها اختبارا جدياً لعلاقات البلدين وتنسيقهما المشترك، ما يكشف عن زيادة عوامل الصراع بينهما في ملف إدارة الأزمة السورية.
هوة الخلافات تتسع
رغم التوقعات في السنوات الماضية بحتمية الصراع بين الطرفين في سوريا تواصل التنسيق بينهما ولم يحصل الأسوأ، ولكن من المؤكد أن الحديث عن شراكة استراتيجية بين الطرفين في سوريا غير قائم. وثمة العديد من العقبات تمنع نشوء مثل هكذا شراكة، وإضافة إلى التنافس للسيطرة على مقدرات سوريا الاقتصادية فإن الأهم هو عدم تطابق نظرتهما لمستقبل سوريا نظرا لعوامل تاريخية وسياسية وجغرافية وثقافية، ناهيك عن مصالح كل منهما وشبكة تحالفاتهما الإقليمية وأهدافهما في نطاق أوسع.
وهناك بالفعل قائمة طويلة من الخلافات بين روسيا وإيران حول الملف السوري آخذة بالاتساع، ومرشحة لنشوب معركة "كسر عظم" بينهما أمام أي مؤشر جدي أو استحقاق يفتح الطريق أمام تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية.
في عداد تلك القائمة، خلافات حول إصلاح الجيش والأجهزة الأمنية ودورهما في المستقبل. وفي حين تفضل إيران وجود ميليشيات قوية تابعة لها في تكرار لتجارب لبنان والعراق واليمن، فإن روسيا مع بناء جيش وطني قوي يضم جميع المكونات بما فيها الكرد.
وتبدو موسكو أكثر قناعة بأن مرحلة العمليات العسكرية الكبرى انتهت، وأن التركيز يجب أن ينصب على التسوية السياسية. وفي المقابل، رغم إدراك إيران لصعوبة الدخول في معارك عسكرية مع تركيا في إدلب، نظرا لأن أي تقدم للنظام والميليشيات التابعة له يتجاوز آخر خطوط أنقرة الحمراء في هذه المنطقة فإنها تدعم النظام بين حين وآخر لتصعيد "محسوب" العواقب لعدة أهداف منها: رصّ صفوف الحاضنة الشعبية للنظام حول هدف محاربة المعارضة والتهويل من خطرها، وبالتالي عدم التركيز على القضايا المعيشية والاقتصادية السيئة التي تشهدها مناطق النظام، وتنذر بحراك تحت شعارات معيشية وضد الفساد وربما ينتقل لطرح شعارات سياسية.
ويمكن أن تمارس روسيا ضغوطا إضافية على النظام لإنجاز الدستور في أسرع وقت، ومن جهة أخرى فإنها أكثر قابلية لمناقشة مصير الأسد في حال الحصول على ضمانات للمحافظة على مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية في سوريا.
وعموما، تنطلق روسيا من أن الملف السوري واحد من ملفات أخرى في المنطقة يسمح لها ببناء علاقات مع الأطراف الاقليمية، في حين تنظر إيران إلى سوريا كـ " ضلع رئيسي في محور المقاومة". وبعثت موسكو إشارات تفيد بأنها منفتحة على التعاون مع السعودية والإمارات في سوريا، وتوجيه هذا التعاون وفق مصالحها وأولوياتها في إعادة الاعمار، وإنعاش الاقتصاد.
ومن المؤكد أن بلدان الخليج على عكس إيران قادرة على ضخ استثمارات في سوريا وتمويل بعض عمليات إعادة الإعمار بالتنسيق مع الروس والنظام، ما يجعل العلاقة معها مهمة جدا في الفترة المقبلة وهو ما يثير غضب إيران الساعية إلى ضبط أي حضور سعودي أو إماراتي دون مستوى تهديد نفوذها في سوريا والمنطقة، والمحافظة على وجود لها في الصراع العربي الإسرائيلي، كخط مواجهة أول يمكن أن تستخدم فيه وكلاءها المحليين.
ويقرّ الجانبان الروسي والإيراني بوجود "مشكلة كردية" في سوريا، ويحذران من "كيان انفصالي" بدعم من واشنطن. لكن طهران تعتبر القضية الكردية "وجودية" بالنسبة لها نظرا لوجود مناطق ذات غالبية كردية فيها، أما بالنسبة لموسكو فهي ورقة "تكتيكية" تستغلها من جهة لإظهار أنها على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية في سوريا وتسعى إلى حوار شامل بين مختلف القوى للوصول إلى تسوية مرضية، ومهاجمة سياسة الولايات المتحدة في المنطقة واتهامها بالتشجيع على "نزعات انفصالية" من جهة أخرى.
إسرائيل على الخط
ويعد الموقف من إسرائيل ودورها في سوريا أكثر الخلافات تعقيداً وحساسية في العلاقات بين موسكو وطهران، ويمكن أن تتعمق أكثر في حال قررت إيران القيام بردّ مؤثر على الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع ميليشياتها، ما يحول سورية إلى ساحة حرب بالوكالة لا تريدها روسيا في الوقت الراهن، نظرا لتأثيرات اشتعال الحرب المدمرة على جهود موسكو لتأمين الاستقرار وهندسة تسوية سياسية على مقاس مصالحها.
ومن المؤكد أن روسيا استطاعت عبر تكتيكات صعبة ومعقدة المحافظة على علاقات متميزة مع الأطراف الإقليمية المنخرطة والمستثمرة في الأزمة السورية، ولكن الواضح أن ضرورات المرحلة المقبلة سوف تضعها أمام خيارات صعبة، وربما يكون العامل الإسرائيلي "برميل بارود"، من شأنه أن يجر الجانبين الروسي والإيراني إلى معركة "كسر عظم" في سوريا، بدأت تلوح مع تجديد موسكو الضوء الأخضر لإسرائيل باستمرار مهاجمة القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في سوريا، في لعبة مزدوجة تحاول فيها روسيا التفرد بالملف السوري على طاولة أي مفاوضات مستقبلاً، وترغيب الولايات المتحدة وإسرائيل والعواصم العربية المطبعة والممولة بفتح الباب أمام تسوية سياسية وإعادة الإعمار، تبدأ بالتجاوب مع عمليات تسويق نظام بشار الأسد، وهنا فإن إيران تعد "الحلقة الأضعف" التي يجب على روسيا الاستمرار من دونها قبل مواصلة تجهيز مسرح التسوية.