تكشف روسيا مرة أخرى عبر تصعيدها في إدلب وريف حلب أن هناك تعثراً طرأ على مسار التفاهمات مع تركيا، لم يتم معرفته بعد بشكل دقيق، لكنه قد لا يكون مرتبطاً بأماكن تقوم بقصفها الآن، وكما جرت العادة، فروسيا تخاطب أنقرة بلغة النار قاصدة تحريك ملف سياسي هنا أو هناك.
هذه السياسة الروسية باتت معروفة منذ أن شرعت مع تركيا في إدارة ملفات القتال بين نظام الأسد والميليشيات الإيرانية من جهة وفصائل المعارضة من جهة أخرى، وفق ما يُعرف بمسار "أستانا" الذي غيّر الكثير من خرائط النفوذ على الأرض.
الأسلحة الروسية تقتل سوريين على مقربة من الحدود التركية
استكملت روسيا ونظام الأسد في 21 من آذار الحالي حملة القصف الواسعة التي تستهدف المرافق الخدمية وأماكن تجمع المدنيين، حدث ذلك عندما قصفت في يوم واحد محيط معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، الذي يعد شريان دخول المساعدات الأممية إلى مناطق سيطرة المعارضة شمالي سوريا، إلى جانب دك مشفى الأتارب الجراحي غربي حلب، ما أسفر عن سبعة قتلى بينهم طفل وامرأة، وجرح أكثر من 15 آخرين، بينهم تسعة من كوادر المستشفى.
الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، قال في بيان له، إن مدنياً قُتِلَ نتيجةَ غارات جوية روسية استهدفت معملاً للإسمنت وكراجا للشاحنات في منطقة باب الهوى الحدودية بريف إدلب الشمالي، وسببت الغارات حرائق كبيرة في الشاحنات.
وفي الأتارب خرج المشفى عن الخدمة نتيجة الاستهداف المباشر، ولم تكتف روسيا بقصف ما سبق، بل أطلقت على منطقة قاح بريف إدلب التي تعج بالنازحين (نحو 1400 مخيم بين ريف حلب وريف إدلب) صاروخ أرض- أرض مصدره قاعدة حميميم الروسية بريف اللاذقية ما أدى لإصابة عدد من المدنيين، وشمل القصف الجوي الروسي أيضاً، قرية كفرشلايا و حرش بسنقول في جبل الأربعين جنوب إدلب.
ولا يعد هذا القصف جديداً فآذار الحالي، شهد عمليات قصف وتدمير روسي لمنشآت اقتصادية في ريف حلب، كما جرى في الخامس من آذار الحالي، حيث كان أهالي منطقة ترحين بحلب الخاضعة لنفوذ تركي على موعد مع حملة قصف بصواريخ أرض- أرض روسية وسعت دائرة لهيب حينما سقطت على منطقة تعج بالمواد النفطية سريعة الاشتعال، محولة ليل المنطقة إلى نهار.
تزامن هذا القصف مع استهداف أرياف إدلب ما أسفر حينئذ، عن مقتل مدنيين أحدهما طفل يبلغ من العمر 16 عاماً وإصابة آخرين.
تجري هذه التطورات الميدانية في ظل سريان العمل بـ "اتفاق آذار"، الموقع بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، عام 2020، والذي نص على وقف إطلاق النار، وإنشاء "ممر آمن"، وتسيير دوريات مشتركة على الطريق الدولي "M4"، تبدأ من بلدة الترنبة (شرق إدلب) وحتى عين الحور (غرب إدلب) آخر منطقة تحت سيطرة فصائل المعارضة.
فريق "منسقو استجابة سوريا" نشر خلال الشهر الحالي، إحصائية للخروقات التي تعرض لها هذا الاتفاق منذ عام، مقدراً إياها بنحو 324 خرقاً في إدلب وحدها، وقال الفريق إن النظام نفذ هذه الخروقات بدعم من موسكو، وجاء في الإحصائية أن الخروقات لم تتوقف شمال غربي سوريا منذ عام، وتمثلت في استهداف الأحياء السكنية بقرى وبلدات ريف إدلب، وذلك بهدف منع عودة السكان المحليين لمناطقهم، إلى جانب تنفيذ الطائرات الحربية الروسية والطائرات من دون طيار عمليات قصف على قرى وبلدات ريف إدلب راح ضحيتها عدد من المدنيين.
المحلل العسكري العقيد أحمد حمادة يؤكد لتلفزيون سوريا أن سياسة الأرض المحروقة هي منهج روسيا ونظام الأسد ضد المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، مشيراً إلى أن موسكو تؤكد مع كل حملة تصعيد في القصف أنها لا تحترم "اتفاقيات التهدئة" التي توقعها، في إشارة لاتفاق "آذار".
حمادة أضاف أن المناطق التي شملها القصف ليست عسكرية وأن جميعها خدمية وبعضها يقع على بعد بعض الكيلومترات من الحدود التركية، ما يعني أن الروس يوجهون رسالة مباشرة لأنقرة.
ويرى أن هذا التصعيد الذي شمل استخدام صواريخ ذكية كالتي استهدفت مخيمات قاح بريف إدلب قد يكون مقدمة لهجوم عسكري تسعى روسيا من خلاله لقضم مزيدٍ من مناطق المعارضة.
هذا ما رفضته أنقرة في الغرف المغلقة؟
يرى الكاتب الصحفي التركي إسماعيل كايا أن ما يدفع روسيا للتصعيد في إدلب، جاء نتيجة لرفض أنقرة ما قد يكون طرحه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، قبل أيام أثناء اجتماعهم في قطر.
كايا رجح في حديث لتلفزيون سوريا، أن يكون لافروف حاول الحصول على موافقة تركية لتمرير إعادة تعويم بشار الأسد الذي يستعد لإعادة تنصيب نفسه في الانتخابات الرئاسية القادمة، كما يرى أن هذا المطلب قد يكون حمله وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف لنظيره التركي، حينما زار تركيا قبل أيام.
ويضيف كايا أن تركيا تعلم أن إدلب تقف أمام مسار ثابت وعدة متغيرات، موضحاً أن الثابت فيها هو أن روسيا ستظل تعمل جاهدة هي ونظام الأسد كي تقضم مناطق جديدة من يد المعارضة.
أما المتغيرات فتتمثل في محاولات تركيا الدائمة تهدئة الوضع في شمال غربي سوريا، سواء عبر نفوذها العسكري على الأرض أو بالدعم السياسي الذي تتشاركه مع الدول الأوروبية، مشيراً إلى أن تركيا لن تستطيع استقبال أي موجة نزوح جديدة من قبل السوريين، كما أن أي محاولة روسية لشن عمل عسكري تعني أن تركيا ستتدخل لوقفها، واصفاً المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بـ "الضيقة جداً" والتي لا تتحمل أي معركة.
ومن المتغيرات المتعلقة بإدلب وفق وجهة نظر كايا، هو ارتباطها بملف بلدة عين عيسى بريف الرقة، التي تطالب تركيا روسيا بإخراج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) منها وإلا ستدخلها عبر عميلة عسكرية كما جرى في بلدتي رأس العين وتل أبيض في تشرين الأول 2019.
وعن خيارات تركيا إذا ما كانت روسيا جادة في شن عمل عسكري جديد في إدلب، يرى كايا أن تركيا لن تقبل بمحاولة الابتزاز الروسية المتعلقة بمستقبل الأسد والملف السياسي، وستظل مصرة على موقفها الذي ينسجم مع مطالب المعارضة السورية.
وفي ردها على التصعيد في إدلب حمّلت وزارة الدفاع التركية، نظام الأسد قصف أماكن خدمية للمدنيين السوريين قرب الحدود الجنوبية لها، كما طالبت أنقرة موسكو بوقف القصف وإنهاء التصعيد في إدلب.
ووفق كايا فإن أنقرة لن ترجح الحل العسكري وستظل متمسكة بمبدأ التهدئة، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الحل العسكري قائم كأحد خيارات الأتراك في منع تأجيج الوضع في إدلب.
بلدة عين عيسى ساحة لتبادل الضغط التركي- الروسي
منذ انتهاء عملية "نبع السلام التركية في تشرين الأول 2019 وحتى الساعة تلعب بلدة عين عيسى التي تسيطر عليها "قسد" وتحيط بها نقاط عسكرية روسية، دوراً في تبادل أوراق الضغط بين القوى المتنافسة عليها (نظام الأسد، قسد، روسيا، تركيا)، فالبلدة تتمتع بأهمية استراتيجية للجميع.
تجري فيها منذ عام بشكل شبه يومي مناوشات واشتباكات ومحاولات تسلل واقتحام إلى جانب ضربات مدفعية وصاروخية ومحاولات للتقدم البري بين الجيش الوطني السوري المدعوم تركيا و"قسد" وحتى قوات نظام الأسد.
هذه الاشتباكات تصاعدت بشكل كبير في الأيام الأخيرة في ظل تعقيدات عسكرية وسياسية فتحت الباب مجدداً أمام التكهنات حول ما إن كان ذلك يؤشر إلى احتمال تنفيذ تركيا عملية عسكرية جديدة فيها، وتنفيذ مطالبها بالسيطرة عليها.
Barış Pınarı bölgesi ile Fırat Kalkanı bölgesine yönelik saldırı girişimleri başarılı şekilde önlendi.
— T.C. Millî Savunma Bakanlığı (@tcsavunma) March 20, 2021
Barış Pınarı bölgesine saldırı girişiminde bulunan 12 PKK/YPG’li terörist ile Fırat Kalkanı bölgesine sızma girişiminde bulunan 2 PKK/YPG’li terörist etkisiz hâle getirildi. pic.twitter.com/C3fj3kkenC
ووفق إسماعيل كايا فإن بلدة عين عيسى تمثل المتغيّر الأساسي في ما يجري بإدلب، ومما يؤكد هذه الرؤية بروز البلدة إلى الواجهة في ظل تصاعد التوتر في إدلب، إذ سبق قصف روسيا والنظام لإدلب وريف حلب سقوط قذائف مصدرها مناطق سيطرة "قسد" على مدينة كلس التركية، إحداها أصابت منطقة خالية والأخرى سقطت على ورشة رخام في حي إسكي بيشاولر، خلفت بعض الأضرار المادية، دون تسجيل إصابات بشرية.
وردا على قصف كلس، دمّر الجيش التركي عدداً من المواقع التابعة لـ "قسد" في مدينة تل رفعت شمالي حلب.
وكالة الأناضول نقلت عن مصدر عسكري قوله إن ما سمّاها "طلقات عقابية" نفذها الجيش على مواقع في تل رفعت، يعتقد أن القذائف التي سقطت على كلس، أُطلقت منها.
كما أعلن الجيش التركي، تحييد 35 عنصراً مِن عناصر "قسد" في محيط رأس العين وتل أبيض، مشيراً إلى أنَّ قوات مِن وحدات المغاوير (الكوماندوس) تمكّنت مِن تحييد هؤلاء العناصر أثناء محاولتهم تنفيذ هجوم ضد منطقة "نبع السلام".
وأمام هذه التطورات في إدلب ومنطقة "نبع السلام" يرجح مراقبون أن تشهد بلدة عين عيسى تطوراً عسكرياً ممكن أن يتمثل بعمل عسكري تركي مؤجل في حال أصرت روسيا على مواصلة قصف إدلب، ويعني العمل العسكري في عين عيسى فقدان الروس ونظام الأسد إمكانية السيطرة عليها والتحكم بها في حال دخلتها تركيا.