عندما تفرغ من قراءة كتاب (روايتي لروايتي) وهي سيرة ذاتيّة أدبيّة للكاتبة الفلسطينيّة سحر خليفة، فإنّ الفكرة الأولى التي ستراودك وتحاصرك؛ أنّنا ما زلنا نراوح في مكاننا منذ النكسة التي دفعت الكاتبة لتسجيل بعض المشاهد وملاحظاتها عليها، وأنّ شيئًا لم يتغيّر في طريقة تعاملنا مع الأزمات التي ما تنفكّ تعصف بحياتنا بين الحين والآخر وما أكثرها!
سيؤلمك أكثر حقيقة أنّنا كعرب نسخٌ متطابقة، لا تفتأ تتكرّر هنا وهناك مهما اختلف المكان والزمان، وأنّنا كسوريين بشكل عام، وكنساء سوريّات بشكل خاصّ، قد عشنا مشاهد وأحداث ترافقت مع الثورة السوريّة، تكاد تشبه إلى حدّ بعيد وغريب تلك المشاهد الثلاثة التي سجّلتها سحر خليفة في سيرتها الذاتيّة الأدبيّة عقِب إغلاق مضيق تيران من قِبل الحكومة المصريّة استعدادًا لعبور سيناء وتحرير فلسطين، وكانت النتيجة تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الضفّة، ومحوِ قرى بكاملها وفتح باب الاستيطان في القدس الشرقيّة والضفّة الغربية، لتُصاب الكاتبة ومن حولها بالذهول أمام جحافل اللاجئين من بلدات الحدود مع إسرائيل وقراها، والألوف منهم وصلوا إلى نابلس ـ حيث تعيش الكاتبة ـ مشيًا على الأقدام بعد أن ضلّوا طريقهم في الجبال والوديان والبراري طوال أيّام.
أمام هذه الجموع التي افترشت العراء بين كروم الزيتون؛ تقرّر الكاتبة بمساعدة جارةٍ لها جريئة الذهاب إلى رئيس البلديّة، لتطلبا منه مساعدة اللاجئين والذي فوجِئ بهما وطلب منهما مغادرة المكان الذي يعجّ بالجنود والرجال، لكنّهما عاندتاه وتمترستا وتمكّنتا بقدرة قادر من استصدار أمرٍ عسكريّ من كبير الجنرالات بفتح مخازن الشؤون الاجتماعيّة ووكالة غوث اللاجئين، وأخرجوا الحبوب والحليب والبطّانيات، تعلّق الكاتبة: "للمفارقة، تمّ نقلها بواسطة شاحنات الجيش الاسرائيليّ".
المشاهدات والملاحظات التي دوّنتها سحر خليفة كانت تحت عنوان "النزول على الأرض" وتحت هذا العنوان تعترف الكاتبة أنّها تحتكّ للمرّة الأولى بشعبها الحقيقيّ، وتكتشف بعضًا من حقيقتهم؛ تحتكّ بأهل القرى وهم الأكثريّة السّاحقة من الشّعب الفلسطينيّ، لتكتشف أنّها بخلفيّتها المدينيّة في وسطٍ كان يُوصف بالبرجوازيّ؛ لا يمثّلون سوى شريحة رقيقة تعوم على سطح بحر، بل محيطٍ راكد، من آدميين يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، فقر وجهل وأمراض أغلبها ناتجٌ عن عدم النظافة وسوء معاملة ٍللنساء والرجال أيضًا، ونزقٌ وكسلٌ وسوء تقدير وأنانيّة؛ "هذا ما كنّا عليه أغلبيّتنا، وإلّا فما تفسير ما كنّا عليه وما وصلنا إليه، ألم تكن النتيجة الطبيعيّة؟ أي هزيمتنا وتشرذمنا وتشتّتنا في ذلك الوقت وهذا الوقت".
ولئلّا تعوم الكاتبة على سطح استنتاجات متسرّعة وعشوائيّة، تفضّل أن تغوص في بعض التفاصيل وتصف ما عاشت وما شاهدت وكيف وصلت إلى استنتاجاتها تلك؛ فالمشهد الأوّل الذي فاجأها وأصابها بالدهشة وخيبة الأمل معًا، حين أوصلت الشاحنات الإسرائيليّة أشولة القمح والبرغل وعلب السمن والجبن الأصفر وكلّها من مخازن الشؤون الاجتماعيّة ووكالة غوث اللاجئين وكيف تجمّع اللاجئون يتفرّجون من دون أن يحرّك أحدهم ساكنًا ويهبّ للمساعدة، أو يقترح ما سيفعلونه كخطوةٍ تاليةٍ على الأقلّ.
ثمّ تعود بها الذاكرة إلى فترة ما قبل الاحتلال، حيث كانوا يتزاورون:
"كنّا قبل الاحتلال حين نتزاور أو نجتمع في مكان ما ونستمع إلى تحليلات هؤلاءِ الرجال السياسيّة ومواقفهم الوطنيّة وقصص السجون التي خاضوها بسبب انتماءاتهم الحزبيّة، نحسّ أنا وجارتي، وطبعًا بقيّة نساء حيّنا والصديقات، نحسّ بالانبهار، وربّما بالنقص، لأنّنا نفتقر إلى ما يتجلّى في أقوال هؤلاء الرجال من قدراتٍ تحليليّة ونزَعَات بطوليّة. فنحن النساء، وأغلبيّتنا محدودات التعليم والثقافة، وطبعًا غيرُ مسيّسات، ولم تُسجن أيّ واحدةٍ منّا ولو يومًا واحدًا، لا نجرؤ على فتح أفواهنا بأيّ تعليق سوى إطلاق همهمات الإعجاب أو الانبهار. والآن، وقد وقعت الفأس بالرأس، وأُصِبنا بأكبر كارثةٍ سياسيّة وعسكريّة وإنسانيّة، وألوف اللاجئين المشرّدين الجائعين المصابين يحيطون بنا، أمَا كان المنتَظر أن يهبّ هؤلاء الرجال المثقّفون والمسيّسون وأعضاء الأحزاب والتنظيمات لنجدتنا ونجدة اللاجئين؟ هذا ما توقّعناه، لكنّهم لم يفعلوا، وظلّوا وقوفًا أمام بيوتهم وخلف شبابيكهم يراقبوننا كأنّ الأمر لا يعنيهم".
هذا المشهد بالتحديد عايشتهُ نساءٌ سوريّات كثيرات في أثناء عمليات النزوح المتكرّرة لهنّ، أو عندما كنّ يستقبلنَ بعض العائلات النازحة في بيوتهنّ حين تكون المعارك في منطقة أخرى قريبة؛ تجتمع عوائل عديدة في بيتٍ واحد، أو في أحد الأقبية التي تحوّلت إلى ملاجئ، وبينما يتحلّق الرجال حول المدافئ يتبادلون الأخبار والتحليلات والتعليق على المعارك الدائرة، وكثيرٌ من تلك التعليقات كانت من النوع المنتقد والمثبّط الذي لا يرى أيّة جدوى فيما يحصل، ومنهم من ينصرف إلى التفجّع على أرزاقه وأعماله ويشتم من تسبّب في إيقافها، تنصرف النساء إلى الطبخ وصنع الخبز بطرق بدائيّة ومتابعة شؤون كبار السنّ الذين يحتاجون إلى رعاية خاصّة، إضافةً إلى ضبط ذاك الكمّ الهائل من الصبية والأطفال الصغار الذين يصعب التعامل معهم وسط الفوضى التي يفرضها المكان الجديد الطارئ.
كم من امرأةٍ سوريّة وجدت نفسها مسؤولةً عن عددٍ لا يُستهان به من الأشخاص! في حين تجلس ضيفاتها النازحات واجماتٍ صامتاتٍ في زاويةٍ ما
أمّا المشهد الثاني الذي وصفته الكاتبة، فهو تقاعس بعض النسوة؛ اللاجئات خصوصًا عن المشاركة والمساعدة في الطبخ وتدبير شؤون ذلك الكمّ الهائل من اللاجئين، وعدم تجاوبهنّ مع المبادرة التي قامت بها الكاتبة وجارتها، إلى أن تدخّل رئيس البلديّة وخاطبهنّ بأسلوبٍ فظّ وقاسٍ دفعهنّ للتحرّك والمشاركة.
كم من امرأةٍ سوريّة وجدت نفسها مسؤولةً عن عددٍ لا يُستهان به من الأشخاص! في حين تجلس ضيفاتها النازحات واجماتٍ صامتاتٍ في زاويةٍ ما، وقد انفصلن تمامًا عن المحيط، تاركاتٍ الحبل على غاربه لأطفالهنّ يسرحون ويمرحون، لا يبدينَ أيّة رغبةٍ في المساعدة، ينتظرن صاحبة البيت أن تقوم بكلّ شيء وحدها، بل ربّما يتذمّرن وينتقدنَ ما يُقدّم إليهنّ من خدمةٍ ورعاية من خلال المقارنة ـ سرًّا أو علنًا ـ بين ما كنّ عليه في بيوتهنّ، وما يعشنَه في بيوت الآخرين.
أمّا المشهد الثالث والأخير فكان حين التقت الكاتبة بأمّها وسألتها عمّا تفعله؛ فأخبرت الكاتبة أمّها بما تفعله، لتغضّ أمّها نظرها وتقول بعد لحظاتٍ من صمتٍ كئيبٍ ومحرج:
"الناس يستوقفونني وسط الشارع ويقولون إنّك دايرة مع اليهود، وإحداهنّ قالت لي بالحرف الواحد: روحي شوفي بنتك وضبّيها، دايرة مع اليهود، والله أعلم بحالتها. سألتُها باكتئاب وقد تراكم الهمّ على قلبي ممّا أكتشفه يوميًّا في بلدي: يعني أنا عميلة؟ ثمّ وصفتُ لها ما حدث... فهزّت أمّي رأسها وسألت بأسىً: هذا إذن ما حدث؟ لكنّ الناس لا يعلمون. سألتُ بقنوطٍ: ولو علموا، فهل يتفهّمون؟ وفارقتُها وقلبي مليءٌ بالأسى والاكتئاب".
هذا المشهد تحديدًا تكرّر على نحوٍ واسع في مناطق ومدن سوريّة كثيرة شاركت النساء فيها في أعمال الإغاثة وإجلاء الجرحى والتنسيق الإعلاميّ لبعض الفعاليّات، وكنّ حاضراتٍ بقوّة على خطوط الجبهة، وتعرّضنَ لِما تعرّضت له سحر خليفة، وقد وثّقت الروائيّة السورية (سمر يزبك) مشاهد شبيهة في كتابها "تسع عشرة امرأة سوريّات يروين".
في نهاية ذلك الجزء الذي سجّلت فيه سحر خليفة ملاحظاتها ومشاهداتها تقول:
"إنّ ما اكتشفته خلال أيّام الاحتلال الأولى، وهو المحكّ والمؤشّر على ما هو أكبر وأعمق، جعلني أشعر باليأس والإحباط، وما اكتشفته هو أنّنا شعبٌ مهذار، كثير الكلام، قليل الفعل، سقيم التفكير، عديم التنظيم، إذن؛ المشكلة ليست في الحكومات الفاسدة وأنظمة الحكم كما كنّا نظنّ، بل إنّ المسألة أعمق من ذلك، أعمق كثيرًا. وبتّ منذئذٍ مقتنعةً بفكرة أنّه كما تكونون يُولّى عليكم، وأنّ المنهزمين في الداخل لا ينتصرون".