بعد تشتت السوريين في بقاع الأرض، أفرزت هذه التجربة أدباً من نوع جديد يصور الواقع بمرارته، ويحمل بين ثناياه شيئاً من النوستالجيا والتحسر على وطن ضائع بسبب حرب لم تبق ولم تذر، غير أنه ليست كل تجربة أدبية في هذا المضمار جديرة بالقراءة أو النشر أصلاً.
سبقت الرواية جميع الأجناس الأدبية في بلاد المهجر التي لجأ إليها السوريون، ولعل السبب في ذلك غزارة التجربة وكثافتها، والحاجة لبوح لم تعد أشطر القصيدة أو سطور القصة تتسع له. كما أن اتساع الوقت لدى اللاجئ المحروم من العمل والمنبت عن أي نسيج اجتماعي يحتضنه قد جعل اللجوء إلى الرواية التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد حلاً لمشكلة العطالة.
غير أن ذلك لا يعني أن جميع ما صدر من أعمال روائية حظي بالقدر الكافي من هذين العنصرين الأساسيين: أي الوقت والجهد، إذ ثمة أعمال تبدو لأي قارئ عادي وكأنها "سلقت سلقاً" كما نقول بالعامية كون المؤلف لم يحسن من صنعة الكتابة شيئاً وكأن الغرض هو مجرد ملء الصفحات بكلام شبيه بالبوح ولكنه يبدو مخلخلاً ومفككاً لدرجة مضجرة وهذا ما لمسته في عدد من الأعمال التي قرأتها.
***
تحمست لقراءة رواية "قطط إسطنبول" (للمؤلف زياد كمال حمّامي، عن دار نون) بعدما بلغني أنها تتناول موضوع العنصرية التي تعرض لها لاجئون سوريون في تركيا، بيد أن حماستي تحولت إلى خيبة أمل بعد قراءتها، إذ لم أجد فيها أي سياق قصصي أولاً، وثانياً لأني توقعت منها أن تدافع عن قضية تهمني. لكن ما وجدته كان مخجلاً حقاً، إذ كيف تدعي رواية أنها تدافع عن السوري في وجه العنصرية من خلال شخصية بطلها "المتحرش" التائه في بحر الغربة، وبطلتها "العاهرة" المغرر بها؟ وكيف أطالب التركي أن يلجم نفسه عن التعنصر ضد هذه النماذج المقززة؟ ولماذا جميع الشخصيات التركية في هذه الرواية شخصيات استغلالية وضيعة؟ حتى الشخصية اللطيفة بينهم أحاطها المؤلف بشكوك لا يفهم القارئ سبباً لها.
يتيه قارئ هذه الرواية في أي حوار يدور بين شخصيتين، لأنه يأتي مفككاً، إذ في بعض المواضع تمتزج أراء الراوي/ المؤلف بلسان المتكلم، كما لا يجري الانتقال الدرامي من حدث إلى آخر بطريقة سلسلة، بل إن الفجاجة هي التي تطبع معظم الأحداث، وكأنها المخرج الوحيد أمام المؤلف الذي وصل إلى درب مسدود في السرد.
ويغلب على الرواية مناقشة موضوع الهجرة والغربة والمعاناة التي يعيشها من مر بهذه التجربة، إلا أن النقاش لا يفضي لأي شيء، إذ حتى الحوار بين الشخصيات بشأن هذه القضية يأتينا ضعيفاً وباهتاً بشكل لا يمكن بنهايته الوصول إلى أي حل، وخير مثال على ذلك ما ورد في هذا الحوار:
"وقف (اليبرودي) بعد أن أنهى سيرة حياته، توجه صوب الباب، وكان (اللولو) يرافقه صامتاً، التفت قبل أن يخرج وقال: الرجال يستطيعون الحصول على المال، ولكن المال لا يصنع منهم رجالاً. وبدأ يصعد درج القبو رويداً رويداً، ثم التفت مرة أخرى وقال: يا مضيع الذهب بسوق الذهب تلقاه، ويا مضيع وطن، فين الوطن تلقاه؟ صعد درجة أعلى، ثم التفت مرة أخرى وهو يرفع سبابته باتجاه اللولو هاتفاً: كُن رجلاً!".
لا شخصيات تتطور في هذا العمل، إذ جميعها مسطحة من دون أي معالم واضحة تميزها، فتارة تنتاب شخصية ما جسارة لا حدود لها، وتارة أخرى نجدها أجبن من الجبن نفسه. ولعل أبرز ما يمثل ذلك شخصية "اللولو" بطل الرواية، إذ عدا عن أن اسمه غير شائع أصلاً في المجتمع السوري، وأن الكاتب لا يرمز لأي شيء محدد من خلال هذا الاسم؛ نكتشف فجأة في منتصف الرواية بأن اللولو كان لصاً قبل غربته، لكنه وللمفارقة لصّ يتمتع بشيء من الشهامة وهذا ما يتجلى عند مساعدته لأول "عاهرة" في العودة إلى الماخور الذي هربت منه، ثم في مساعدته لأخرى هربت من الماخور نفسه!
***
تمضي الأحداث التي تبين مدى ضياع اللولو وتيهه، وتتجلى أبلغ صور الضياع في محاولته تعقب إحدى الحسناوات التركيات، ومراقبته لها كل يوم على طريقة أوقح المتحرشين، والغريب أن الفتاة لم تشعر بالخوف من هذا المتعقب الغريب ولم تتصل بالشرطة كما يمكن لأي فتاة أن تفعل في الواقع، سواء أكانت بنت البلد أم مهاجرة، بل عاملته بقرف واستعلاء يبديه أبناء البلد تجاه الغرباء. إذن، أين العنصرية هنا؟ وقبيل نهاية الرواية نكتشف من خلال أحد الحوارات أن البطل مغرم بالبطلة، هكذا بدون لقاءات أو إيحاءات أو مقدمات، ولهذا يسعى في الختام إلى مساعدتها، لتُختم القصة بنهاية مبتورة.
بعدما غدت الهجرة ظاهرة العصر وأزمته الكبرى، بات علينا أن نرسم ملامح مستقبلنا، نحن الذين هُجّرنا بعيداً عن الوطن، وأن نؤكد هويتنا التي نعتز ونفخر بها من خلال أعمال ومآثر تشيع حالة من التضامن والاعتزاز
أما بطلة القصة "شام" فلا تحتل مساحة كبيرة من صفحات الرواية، وهي الأخرى لا تتطور مع أحداثها، إذ نكتشف أنها كانت قبل الغربة قد تعرضت لتحرش واغتصاب، ثم غرر بها أحدهم لتصل إلى تركيا وتعمل بالدعارة، ولهذا نجدها تستسلم لقدرها تارة وتثور عليه تارة أخرى ولكن بلا جدوى، ولعل هذه الشخصيات وما يرتبط بها من أطر أكثر ما يعبر عن الصور النمطية تجاه المرأة التي لم يتخل عنها الكاتب بل أصر على تكريسها بطريقة لا تخلو من فجاجة، وخاصة عندما ذكر بلسان الراوي بأن أغلب من يعملن في المواخير من فئة "المطلقات والعوانس" على حد تعبيره، مؤكداً على أنها لم تبارح دور المفعول به/ المغرر به الذي أنيط بها منذ العصور الوسطى، ولم تستطع كثير من العقول القاصرة التخلص من تلك الأفكار حتى الآن.
يحاول المؤلف أن يقدم نفسه ككاتب واقعي في هذه الرواية، إلا أن معظم الأحداث التي قدمها لا تستند إلى الواقع، ومنها تفجير القنصلية السورية الذي عمد للكتابة عنه حتى يخرج نفسه من مأزق سردي، من دون أن يترتب على هذا الحدث أي تبعات أو نتائج لا على الشخصيات ولا على بقية الأحداث. يتكرر المشهد نفسه مع اكتشاف اللولو لمسدس في حقيبة صديقه المتوفى، وخوفه من افتضاح الأمر واتهامه بالإرهاب، إذ يظن القارئ هنا بأن المؤلف سينتقل بنا إلى حدث يخلق مشكلة حقيقية تهدد البطل ثم تقودنا إلى ذروة الأحداث، ولكن هذا الحدث يختفي كغيره وكأنه ورد لمجرد الثرثرة لا أكثر. يتكرر الأمر مع شخصية شام التي تكتشف إصابتها بمرض خطير فتقرر أن تنتحر، ولكن تلك المخاوف تمضي كغيرها من دون أي معالجة أو تبعات تؤثر على بقية الأحداث.
***
كنت أنتظر من تلك الرواية أن تتطرق للحديث عن واقعي/ واقعنا نحن السوريين المقيمين في إسطنبول، عن العنصرية التي جابهناها، وما ترتب عنها من مصاعب حياتية، والحق يقال إن المؤلف تحدث عنها من خلال اللافتة التي تعهد من خلالها أحد المرشحين بطرد السوريين ومن خلال إحدى الخطيبات في حزب معارض يهدد الغرباء بالترحيل، ولكن الأمر لم يتعد السرد وبقي بلا أي معالجة أو بحث عن حلول أو حتى أي تعبير عن حالة تضامن أو سعي لأي تغيير، وأوضح مثال على ذلك ما ورد في بداية الفصل السادس في معرض الحديث عن أحد الأحزاب التركية المعارضة:
"يتدافع المصفقون، وتتعالى أصوات المداحين، والمحرضين المرتزقة، ولأنها لم تعرف أن الوردة حب، فلم تعرف أن الحب وطن، والوطن يحب الناس، ويحب الحيوانات أيضاً. ولأنها تحب وطنها، كما تدعي في خطبتها أمام الحشد من حزب (الوردة) المعارض، فقد رفعت بيدها الوردة المسكينة التي لم تستطع معارضة خطابها، فالورد لا يتكلم".
كما تمنيت أن أجد في الرواية شخصية ناجحة رغم كل الظروف، كشخصية طالب مكافح يدرس نهاراً ويعمل ليلاً ككثير من طلاب الجامعات الذين أعرفهم على سبيل المثال، أو شخصية لامرأة تحدت كل العقبات التي تقف في وجه أي واحدة من مثيلاتها بمجتمعنا وحققت ذاتها بصعوبة رغم كل المعوقات، أو شخصية لرب أسرة أرهقته الحياة ولكنه بالرغم من كل صعاب الغربة ما يزال يجابه الجميع وإن تقطعت به السبل في النهاية ودفعته نحو السفر إلى أوروبا، ولكني لم أجد سوى شخصيات مهلهلة، تائهة، غير مكتملة المعالم، وينقصها النضج بما يكفي لتسرد قصتها وتعبر عن واقعها وتحاول أن تغيره نحو الأفضل، ولذلك بقي اليأس العنصر المسيطر من أول صفحة حتى نهاية الرواية، أما التجارب فلا تليق بمستوى الجالية السورية وإسهاماتها في تركيا، كما لا يليق اختصار إسطنبول وكل ما فيها من عراقة وجمال وحداثة بـ "حي الغجر" سيئ الصيت.
أعرف أن تجربة الغربة صعبة وبأن التشتت الذي تحدثه يطال حتى ذهن المرء وتفكيره، وتجعله ينكفئ على ذاته ويتخذ من أفكاره ومعتقداته البالية صنماً يعبده ويعبر من خلاله عن هويته وذاته، ولكن هذا ليس بمسوغ للإساءة إلى جالية بأكملها، وكأن كل ما بوسع السوري أن يقدمه في بلاد المهجر هو الدعارة والسرقة والتحرش!
***
بعدما غدت الهجرة ظاهرة العصر، بل أزمته الكبرى، بات حرياً بنا أن نرسم ملامح مستقبلنا، نحن الذين هُجّرنا بعيداً عن الوطن، وأن نؤكد هويتنا التي نعتز ونفخر بها، من خلال أعمال ومآثر تشيع حالة من التضامن والاعتزاز بين كل أبناء الجالية وبين كل السوريين عموماً، وهذه المآثر ليس أقلها الأدب، ولهذا مازلت بانتظار أدب ناضج رصين يعالج قضايا عميقة، يستحق أن يترجم إلى لغة بلد اللجوء، ليخلق جسوراً من التواصل والتفهم بين الشعوب، وليترك أثراً ويعبر عن مظالم تفشت ويخشى السياسيون الحديث عنها خوفاً من أن ينقص جمهور الناخبين ناخباً، ثم إنه لا ضير في التطرق لهموم المعذبين في الأرض في الأعمال الأدبية، بل إن الأدب يقوم على أمثال هذه الشخصيات ليعالج قضايا مجتمعية. فها هو أورهان باموق في روايته "غرابة في عقلي" يسرد لنا كيف تغيرت إسطنبول من خلال شخصية "مولود" الساذجة البسيطة بطريقة مؤلمة لكنها تدفع القارئ للتعاطف ولفهم واقع الشريحة الأوسع التي تمثلها تلك الشخصية، أما أن تختصر تجربة جالية كاملة بشخصيات ضائعة أتى بها الكاتب من قاع المجتمع من دون رسم واضح للشخصيات والهدف الذي دفعه للحديث عن واقعها وتحليله والأسباب التي أوصلت تلك الشريحة إلى القاع، فهذا هو الظلم بعينه، ولهذا لا يمكن لأدب من هذا النوع أن يدافع عن قضية محقة ولا حتى أن يقدم نفسه على أنه يطرحها بحثاً عن حلول.
ناقشت الأمر مع أحد المؤلفين الصاعدين، فكان رده: "فليكتب الجميع، ولندع أي أحد يعبر عن ذاته بالكتابة كما يحلو له سواء أخرج بعمل جيد أم رديء، لأننا في عصر الحرية بكل أشكالها، وحرية التعبير جزء لا يتجزأ من الحرية التي خرجنا من أجلها وطالبنا بها في ثورتنا"، أوافقه الرأي بشدة، ولكن، لابد أن تترافق حركة الأدب الصاعد مع حركة نقدية تواكبها، لأن هذا ما يخلق نهضة أدبية حقيقية، وحركية مطلوبة في الفكر، كما لا بد لدور النشر أيضاً أن يكون لها رأي في أي عمل تقرر نشره، ولهذا أنتظر ذلك اليوم الذي ستستحدث فيه دور النشر العربية منصب "محرر أدبي" مهمته قراءة الأعمال وكتابة تقرير تقييمي عنها يحدد مصيرها، بين النشر وعدمه.