يخرج رضوان بخطوات مثتاقلة مترددا نحو رحلة مجهولة، لا يعلم إن كان سيعود بعدها أم لا. على باب منزله تقف سيارة يقودها رجل ثلاثيني يدعى أبو هيثم يلبس بنطالا عسكريا، وبلهجة ساحلية ثقيلة يناديه مطمئنا إياه بأن رحلتهم لن تستغرق أكثر من ساعتين وسيكون في إدلب.
يجتمع النقيضان في نفس السيارة، فرضوان هو عسكري منشق عن قوات النظام منذ ثلاث سنوات كان يختبئ في أحد منازل أقربائه في مدينة اللاذقية، في حين أبو هيثم هو قائد مجموعة سابقة في ميليشيا "الدفاع الوطني" في اللاذقية تم تسريحه قبل أكثر من عامين بعد حل المجموعة.
تسير السيارة بهدوء في شوارع اللاذقية متجهة نحو جبال الساحل السوري، تغيب ضوضاء المدينة ويسود الهدوء، تقطعه كلمات أبو هيثم الذي بدا واضحا أنه يسعى لإدخال الطمأنينة إلى قلب الشاب.
يؤكد المقاتل السابق في ميليشيا" الدفاع الوطني" أن "الفقراء هم الخاسر الأكبر في هذه الحرب"، ويشير إلى نفسه بالقول: "طلع جماعتك وجماعتي باعونا بعد سنين من المعارك والإصابات، رمونا بلا وظيفة بلا أي شي، ولا حتى تعويض".
يحاول رضوان مجاراة أبو هيثم بالتأكيد له أنه هدفه السفر إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وأنه لم يعد ينوي القتال في هذه الحرب، ليضيف أبو هيثم" إيه والله حقك، لو بإيدي طلعت معك بس وراي عيلة وولاد".
بفضل معارفه السابقة ونفوذه يقطع أبو هيثم حواجز النظام دون تفتيش، لا يدري رضوان إن كان هذا الأمر تم باتفاق مع العساكر لقاء جزء من المبلغ المالي الذي قدمه له، والذي فاق ثلاثة ملايين ليرة سورية، إلا أن ما يهمه هو الوصول إلى إدلب وهو ما حصل فعلا.
قصة أبو هيثم التي رواها لموقع تلفزيون سوريا رضوان ما هي إلا واحدة من عشرات القصص التي باتت تنتشر بشكل كبير في الساحل السوري لاستغلال مقاتلي الميليشيات السابقة نفوذهم في عمليات التهريب وتجارة الممنوعات والمعاملات غير الشرعية.
نفوذ يحميهم:
منذ عام 2018 لاحقت قوات النظام بضغط روسي العديد من ميليشياتها في الساحل السوري التي كان لعناصرها سطوة كبيرة في المنطقة بفضل مساهمتهم الكبيرة في معارك سوريا، مثل "الدفاع الوطني" و"صقور الصحراء" و"مغاوير البحر" و"سرايا العرين" وتم تفكيك هذه الميليشيات، وتخيير عناصرها بين الانضمام لقوات النظام والتطوع أو التسريح.
سرقة وعمليات خطف:
يشكل شبان الميليشيات المنحلة في الساحل السوري جزءا كبيرا من القطاع الاجتماعي الذي بقي عرضة للبطالة، بعد أن بدأ عدد كبير منهم حياته في الحرب منذ سنوات، واعتمد عليها لتأسيس نفسه إلا أن إنهاء خدماتهم دفع بعضهم للأعمال غير المشروعة مستغلين نفوذهم السابق.
يؤكد مسؤول "لجان التنسيق المحلية" في مدينة جبلة أبو يوسف جبلاوي في حديث خاص لموقع تلفزيون سوريا أن حل هذه الميليشيات ساهم في تدهور الوضع الأمني بشكل كبير في مدن وقرى الساحل السوري بعد استغلال معظمهم لسلاحه في أعمال السلب والنهب وقطع الطرقات والعمل بتجارة المخدرات والدخان.
ويضرب "جبلاوي" مثالا على كلامه بالقول:" منذ عدة أشهر هرب آيات بركات قائد ميليشيا الدفاع الوطني في جبلة بعد اكتشاف سرقته لعشرات الملايين وقيامه بعمليات نهب ممنهجة تمت من خلال استغلاله لسلطته السابقة وتهديد الأهالي، وكان معه عشرات الشبان الذين شكلوا عصابات خطف كانت مسؤولة عن اختطاف تجار وأهالي من سكان جبلة مقابل ملايين الليرات، هؤلاء ما زالوا يعملون حتى اليوم ويحظون بحماية أجهزة أمنية".
استغلال سلطة:
أم وائل وهي والدة لمعتقل من مدينة اللاذقية تقيم حاليا في تركيا تروي لموقع تلفزيون سوريا قصة استغلالها ماديا من قبل قائد إحدى هذه الميليشيات المنحلة الذي وعدها بإخلاء سبيل ولدها العشريني المختفي منذ عام 2013.
تقول أم وائل:" بعت منزلي في اللاذقية على أمل أن أحظى برؤية ولدي دفعت ثمانية ملايين ليرة لشخص يقال أنه نافذ وله سلطة كبيرة وهو أحد مسؤولي الدفاع الوطني السابقين يكنى أبو عمار، منذ عدة أشهر وأنا أنتظر دفعت له كامل المبلغ بناء على طلبه لكن حتى الآن لم أحصل على ولدي".
في قرى الساحل السوري التي يعيش معظم أهلها على منتجاتهم الزراعية انتشرت تجارة الفحم والحطب، عبر مفاحم معظمها غير مرخصة ولا تخضع لشروط وزارة الزراعة.
يستغل تجار المهنة حراج وغابات ريف اللاذقية التي هي ملك عام لتحويلها إلى فحم للشواء والأركيلة وكسب آلاف الليرات يوميا، منذ خمس سنوات لم تغب الحرائق التي يؤكد سكان المنطقة أنها متعمدة عن غابات المنطقة .
تشكل تجارة الفحم حاليا مصدرا رئيسيا للدخل في المنطقة الساحلية لكن لا يستطيع أي أحد العمل بها وفق محمود (ع) من سكان مدينة بانياس الساحلية، لكونها تحتاج لحماية وغض نظر من مخافر النظام.
يشير الشاب الثلاثيني إلى دور بارز لمجموعات متنفذة تتبع لسرايا العرين في حماية هذه التجارة والاستفادة من أرباحها، ويضيف في حديث لتلفزيون سوريا:"المفاحم تعمل بحماية هذه المجموعات لا يستطيع أي أحد أن يعمل إلا بموافقتهم، حتى أثناء عمليات النقل تراهم مسلحين، هؤلاء تخلوا عن المعارك وبدؤوا تجارتهم هنا".
ورغم حل معظم الميليشيات في الساحل السوري بشكل رسمي وإلحاق بعض مقاتليها بـالفيلق الخامس، الذي تديره روسيا، فإن سطوة السلاح والنفوذ التي يتمتع بها مقاتلو هذه الميليشيات ما زالت قائمة ، ومعها يدفع المدنيون كل يوم آثار حرب يبدو أنها ستدوم طويلا.