حظيت مقامات الحريري (محمد الحريري البصري 1054- 1122م) المصورة والمزخرفة والمزوقة بالرسوم الملونة، بالكثير من الاهتمام والدراسة والتمحيص لدى نقاد الفن التشكيلي والمؤرخين لتاريخ الفن العربي والإسلامي، بوصفها وثيقة حية لأفضل تجارب الفن التشكيلي العربي في ذروة ازدهاره، ومثلت نموذجا تجلت فيه الخصائص الأساسية لفن التصوير العربي في أكثر ابداعاته تألقا، حيث اجتمع في هذه الرسوم المضمون الإنساني مع صياغة فنية محكمة شكلا ولونا، ووثقت لنا رؤية حية لعصر له خصوصيته التاريخية بكل ما فيه، فهي شهادة واقعية لمرحلة تاريخية محددة المعالم ومدرسة فنية قائمة بذاتها سميت لاحقا بمدرسة بغداد للتصوير.
ويعتبر يحيى بن محمود الواسطي (من القرن الـ13 الميلادي) الذي رسم مخطوطته الشهيرة لمقامات الحريري عام (1237م) والتي تعدّ من أهم المخطوطات الباقية إلى عصرنا هذا والمحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس؛ أحد أهم الفنانين المصورين الذين عرفتهم الحضارة العربية والإسلامية. فهو كمصور وملون من أفضل فناني العرب قدرة على التعبير بالإضافة إلى تميزه كرسام منمنمات ومصور للأحداث حيث استطاع تقديم هذه المقامات بأسلوب فني متميز تعبيريا متجاوزا النص في كثير من الأحيان موثقا الإطار التاريخي والمكاني للأحداث التي يسجلها ويقدم لنا فنا واقعيا مترابطا مع عصره يمثل معجزة من معجزات الفن التشكيلي العربي.
فما هي مقامات الحريري؟ وكيف استخدمها الواسطي ليقدم لنا تحفته الفنية الخالدة تلك؟
مقامات الحريري
أول من استخدم "المقامة" بمعناها الأدبي المتعارف عليه، هو بديع الزمان الهمذاني (969-1007م) واستطاع أن يجعلها فنا قائما بحد ذاته بعد أن كانت عبارة عن ندوة يتحدث فيها الأديب بعبارات منمقة ومنتقاة، فجاء الهمذاني ليعطيها شكلها المألوف بمقوماتها الأسلوبية كقصة متتابعة الأحداث ترصد شخصيات بعينها ولها شكلها المميز المليء بالسجع والمحسنات اللفظية والبديعية وذلك في القرن العاشر الميلادي، ثم جاء الحريري فزاد المقامات تألقا لفظيا وتكلفا بالصنعة وتلاعبا بالمعاني والكلمات ومبالغة بالمحسنات اللفظية والبديعية وفي السجع والجناس والطباق ... إلخ، وجعلها تقدم قصصا ذات طابع فكاهي بأسلوب خاص.
ومقامات الحريري مجموعة من القصص بطلها "أبو زيد السروجي"، وهو رجل فصيح اللسان حاضر البديهة واسع الحيلة لكنه فقير الحال يتنقل من مكان إلى آخر سعيا وراء الكسب بطرق متعددة مستعينا بمواهبه ودهائه، فتارة يغشى الجموع ليقوم فيها خطيبا وواعظا، وتارة يتسول ويسأل الناس الإحسان إليه، وتارة يتقمص دور العراف ليبيع التعاويذ، أو يكون حارسا لإحدى القوافل أو معلما للصبيان، وهكذا... مستغلا كل ذلك لمنفعته الشخصية استنادا إلى مهاراته الفردية وثقافته، فيلبس كل حال لبوسها المناسب كما يرتئيه، ومن خلال هذه الشخصية وثق لنا الحريري حياة الناس في ذلك الزمان وفي العديد من الأمكنة حيث أن السروجي سافر من سمرقند إلى الأندلس ومن تبريز إلى الإسكندرية ومن تونس إلى البصرة، فقدم لنا من خلال أحداث المقامات والمواقف التي يتعرض لها بطل القصة صورة واقعية عن حياة الناس وأسلوب معيشتهم اليومية وخاصة أبناء الطبقة الوسطى بجميع فئاتهم، وهنا لابد من الإشارة إلى أن شخصية أبا زيد السروجي تمثل نموذجا صادقا لفئة من الناس أصبح عندها كل شيء مباح حتى الكذب والجبن والتحلل الخلقي والمراءاة مقابل المنفعة المادية، وهذا يعكس الصورة العامة للمجتمع العربي والإسلامي في فترة تحلل الخلافة العباسية وانتشار الفساد وانعدام الأمن والهزيمة النفسية للمسلمين إزاء شعورهم بالعجز عن صد هجمات الغزاة الصليبين وغيرهم. وهذه السرديات بتلك الطريقة جعلت كتاب مقامات الحريري من أكثر الكتب شعبية ورواجا في ذلك الزمان، ونسخت منها مئات النسخ وترجمت لعدة لغات في ذلك العصر، وقد عثر على عشر مخطوطات مرسومة برسوم مختلفة ملونة ومزينة ومزوقة، وقد اختلفت القيمة الفنية لهذه المخطوطات المرسومة وكان أهمها على الإطلاق هي المخطوطة التي كتبها ورسمها الواسطي.
أهمية رسوم الواسطي الفنية والتاريخية
نفهم مما سبق أن مقامات الحريري أثارت اهتمام الناس في ذلك العصر وذلك استدعى اهتمام الفنانين والرسامين ووجدوا فيها فرصة للتعبير عن عصرهم بكل وضوح حيث تجلت فيه قدرة الرسام على الاستفادة مما تقدمه له الحكاية المروية ليقدم لنا المشهد مرسوما وملونا مترافقا مع النص الأدبي ولكن ما يميز الواسطي عن غيره هو أن رسوماته التي ترافق نصوص مقامات الحريري تعتبر أعمال فنية تنطق بالإبداع وتختلف عن أصلها المكتوب لما احتوته من مشاهد لا نراها في النص في كثير من الأحيان، وهي بذلك تستوحي النص فقط كلقطات مسرحية سريعة لجانب من الحادث، وأعطى الفنان لنفسه الحرية الكاملة في التعبير بحيوية لافتة دون الاكتراث والتقيد الدقيق بالمكتوب، وعليه فإن تلك الرسوم لا تعتبر مجرد فن تسجيلي فقط وإنما هي عملية إبداع خالصة تستوحي القصة وتقدم اللوحة المرافقة التي يمكن أن تنتزع من الكتاب لتعلق كعمل فني متكامل له مزاياه الفنية الخاصة، وقيمته الاجتماعية المميزة.
وفي وصف تلك الرسومات التي أنجزها الواسطي نورد ما كتب الناقد الألماني المعروف ريتشارد اتنغهاوزن لأهميته التحليلية، يقول اتنغهاوزن: “بلغ فن التصوير ذروته في رسوم المقامات التي أنجزت في بغداد بالجهد الكبير والمتنوع الذي بذل فيها، وقد تم ذلك على الرغم من حقيقة أن كتاب الحريري لا يقدم للمزوق إلا الشيء القليل كما يبدو ذلك عليه، والنقطة الرئيسية هي البراعة اللفظية لدى البطل (السروجي) الذي يعرف بارتجالاته الحاذقة وادعاءاته المستهترة كيف يحرك حشد من الناس أو شخصية بارزة ويحصل نتيجة لذلك على هدايا كثيرة، ولقد ظل القراء العرب لمدة قرون يعجبون بتلك التلميحات الكثيرة والاستعارات الحاذقة والتلاعب بالألفاظ والأحاجي وغيرها من أعمال البراعة التي تضفي على هذه المغامرات أهميتها الأدبية، ذلك أن المزوق كفنان غافل عن مثل هذه الإغراءات اللغوية ولا يستطيع أن يستعمل سوى الحالات التي وجدت لإيصال هذه الأوهام اللفظية، وكيفما كانت الحال فإن الخمسين مقامة حدثت في أماكن عديدة، ولذلك فإن هذه التصاوير بجهدها المدروس تغدوا واضحة جهد المستطاع، وتوفر لنا نظرة ليس لها مثيل في الوطن العربي، وهي رسوم إعلامية عن العراق لأنها أنجزت هناك، نحن نشاهد حادثة وقعت في مسجد وأخرى غيرها في مكتبة وفي سوق أو في خان أو في مقبرة أو في مخيم صحراوي أو في جزر خضراء في المياه الشرقية ومرة أخرى في بلاط أحد الحكام وقصرا فيه العبيد وفي ذات اللحظة التي يعاقب فيها أحد التلاميذ، وفي موقد على مقربة منه حيوان ذبيح أو نشاهد سفينة وكأنها على وشك الرحيل، وفرسانا وحيدين في الصحراء وراعية إبل مع أمتعتها وموسيقيين راكبين، ومما شابه ذلك، إنه استعراض للأغنياء والفقراء، للحزانى والمستبشرين، للمنفعلين والهادئين، للطفيليين والمتفجرين، فهذه الرسوم في واقعيتها تكشف مظاهر الحياة في القرون الوسطى التي ماتزال غير معروفة، وهكذا عن طريق هذه الرسوم اطلعنا على عمائر المدينة المحلية والتي زالت منذ زمن طويل، وكذلك عرفنا بعض التفاصيل من أمثال أجزاء السقوف المتحركة التي يمكن تحويلها من جانب واحد لغرض التهوية الصحية، فهذه كلها يمكن فهمها بيسر، ونستطيع أن نعرف الطريقة التي كانت تحاط بها ألواح السفن سوية بالشكل الذي لازالت فيه تصنع في (المكلا) جنوبي الجزيرة العربية، أو ننظر عن قرب إلى خزانة لآلات حجام، على أن أكثرها بروزا هو أننا نستطيع التغلغل في المنازل التي لا يمكن الوصول إليها في ذلك الوقت مثل حجرات النساء، والحقيقة أن مثل هذه المرآة الفريدة للحضارة العربية في ذلك العصر تعكس عمليا كل مظاهر الوجود البشري من المهد إلى اللحد“.
في الحقيقة إن ما قيل وما كتب عن رسومات الحريري ليس بالقليل أبدا وهي مازالت حتى الآن قيد الدراسة والنقد والتحليل لما فيها من إبداع مبهر على صعيد الجماليات المتعارف عليه اليوم، من العمق الإنساني إلى قوة التعبير إلى جمال التناغم اللوني وتوظيف الشكل لإبراز العنصر الأكثر أهمية وهو الإنسان مع مراعاة التوازن البصري في الصورة المرسومة، وإذا أردنا تحليل كل لوحة على حدة فلن يسعنا المجال هنا، ولكن سنقف على أهم رسوماته وأروعها على الإطلاق ربما وهي لوحة (قافلة الجمال).
في هذه اللوحة يبدو المشهد عاديا للوهلة الأولى، فهي تصور مجموعة من الإبل تسوقها راعية، والحديث الموجود في المقامة الثانية والثلاثون لا يتطلب من الفنان أن يرسم مثل هذه اللوحة إذ يرد حديث قافلة الجمال عرضا في النص، ولكن هذا الحديث أثار خيال الواسطي فأبدع لوحته تلك، إذ لجأ إلى خياله الفني الخصب فجعل الإضاءة متدرجة ولوَن الإبل بألوان متقاربة مشرقة موزعة ببراعة ومدروسة بعناية فائقة، وأراد من خلال ذلك أن يقدم دراسة لتناغم لوني، وحركة تنبعث من تداخل الجمال مع بعضها، وإن تبدل حركة رؤوسها زاد المشهد حيوية، وأعطى عبر تبدلات جزئية من جمل لآخر ومن مساحة لأخرى تماثلا وتقاربا وتغيرات تعطي إيقاع موسيقي في اللون والضوء وتداخل الأشكال وتشابك الأرجل التي تكشف عن تعدد أشكال الحركة فتعطينا الإحساس بأنه لم يرسم سوى جملا واجدا يتحرك حركة انسيابية متناسقة، وعليه فيمكننا الحديث عن شكل من (المستقبلية) في تكرار الرؤوس والأرجل وفي تنظيم المساحات التي تختلف عن بعضها وبهذا يبتعد عن المحاكاة أو الصياغة التسجيلية إلى البعد الأكثر تعبيرية، ومما يزيد من روعة اللوحة هو البعد الإنساني الذي نستشعره من خلال بعض المعاني التي أضفاها على الإبل حيث نجدها وكأنها تائهة غريبة لا تدري مستقرا لها، وفي وصف هذه اللوحة الرائعة يقول محمد خدة التشكيلي الجزائري المعروف:
"بخلخلة الفضاء كان الواسطي يهدف إلى معالجة مسألة الثبات والجمود الذي وسم معظم الأعمال الخطية لعصره، ونعطي هنا مثالا عن المقامة الثانية والثلاثون وهي قطيع الجمال على مشارف المدينة التي تبرز بوضوح انشغال المصور بالحركة والخط، فنحن بصدد موجة رائعة من الجمال المتحركة تزيد من حركتها وضعية سائقها بيديه التي تحدوها وكأنه قائد أوركسترا الجمال... إن هذه اللوحة بغض النظر عما تمثله تبدو مثل الجملة المكتوبة التي تملأ الصفحة مما يدل على إفادة الواسطي من أسلوب الخط العربي إذ لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أنه كان واحد من أمهر الخطاطين في عصره، هذه الحركة المتآلفة والإيقاع الكامل تؤدي بنا إلى الافتراض بأن الواسطي في مساره الفني بدأ بالفن التشبيهي مرورا بالبحث في الإيقاع والحيَز والخط ليفضي إلى التنميط ثم التجريد، هذا التسلسل الذي يختزله الواسطي في رسمه لوضعية الجمل على شكل زهرة مذهبة مكونة من ستة بتلات وفي هذا يختصر قرونا من مسيرة الفن التشكيلي العربي”“. ويصفها التشكيلي العراقي المعروف جواد سليم قائلا: ““إنها مجموعة من الجمال، وجمال العراق نعرفها جيدا لا يتعدى لونها لون التراب ولقد صورها هذا العبقري العظيم كل جمل يتناسب مع اللون الذي بجانبه فكان الانطباعي الأول“.
نعم، كان الواسطي فنانا من الطراز الرفيع، وسابقا لعصره وأتى بما اجتهد فنانو عصرنا على استحداثه وتطويره، إذ كشف الواسطي بأسلوبه الرشيق البسيط عن مفاهيم جمالية أصيلة معبرا من خلالها عن ملامح الحياة والبيئة العربية في زمانه فكانت رسوماته مصدرا لدراسة فن التصوير البغدادي ووثيقة أساسية لبعض الدراسات الاجتماعية والفلكلورية والتاريخية، وتعتبر مصدرا للإلهام لدى كثير من الفنانين العرب المعاصرين الذين يسعون لتأصيل حركة الفن التشكيلي العربي الحديث.