رسالة مفتوحة إلى "الجوكر" بسام كوسا

2024.06.19 | 07:04 دمشق

سبسب
+A
حجم الخط
-A

عزيزي الفنان القدير "بسام كوسا" تحية طيبة، أتمنى من كل قلبي أن تكون بخير.

قد يكون مضيعة للوقت في هذه اللحظة السورية الفاصلة أن نتناول حديثاً لأي سوري مهما بلغت شهرته، ومهما كان "إنسانياً"، و"مثقفاً"، لكنه يعجز عن قول ما يريد، أو يكذب ويجامل فيما يقول، فالحد الأدنى من المسؤولية الوطنية يتطلب الجرأة والصدق، فإذا غابا فلا معنى لأي كلام.

بعد أن وصلت سوريا إلى ما وصلت إليه، وبعد كل هذا الألم والخراب يصبح تبرير الأفراد لموقفهم الملتبس بلا أي أهمية، والرأي – أي رأي - مهما اختلف، أو ذهب في هذا الاتجاه أو ذاك، يصبح أشبه بثرثرة بلا طائل إن لم يكن صادقا ومسؤولا في مواجهة كارثة لم تبقِ على شيء، أما اجترار ماتم تسويقه من قبل أجهزة مخابرات النظام ووسائل إعلامه خلال الأشهر الأولى من الثورة السورية فقد سقط منذ أن أدارت أول دبابة سورية فوهة مدفعها باتجاه مدنيين سوريين، وفضحت الأحداث كم كان كاذبا، وتكراره ليس إلا خديعة تقارب الخيانة، أو هو العار بعينه إذا أردنا تخفيف العبارة، فسوريا تتلاشى، وينهشها المرتزقة واللصوص، وتستبيحها الاحتلالات من جهاتها الست، ويبيعها حكامها بأبخس الأثمان!

ما دفعني  لتناول حديثك هو هذا الإحساس بالمرارة، عندما وبعد ما يزيد عن ثلاثة عشر عاماً من المقتلة السورية أجدك تعيد على مسامعنا حديثاً نسيه السوريون كلهم، وأصبح بطلانه واضحاً، ولا يحتاج فهم غاياته وفحواه لعقل شديد النباهة والذكاء، إذ يكفي قليل من الضمير والشجاعة لكي نفهم كل المخاتلات والتحايلات والتلاعبات التي قمتَ بها كي تظل في المساحة التي تعتقد أنها آمنة، وأنها تقيك عسف السلطة، وتبقيك مرتاح الضمير. 

لست ممن يتجاهلون حقيقة العصابة التي تحكم سوريا، ولست ممن لا يعرفون قمعها الوحشي المنفلت من أي ضابط، وأعرف جيداً خوف كل من يعيش في متناول قبضتها فيما لو قال ما يعارضها، لكنني أيضاً لست ممن يتجاهلون مدى خطورة هذه المخادعة المتعمدة في قول الحقائق التي لا يمكن لسوريا أن تخرج من كارثتها إلا بالاعتراف بها، وأن طمس هذه الحقائق هو فعل يكاد يقترب من الخيانة في لحظة نرى فيها جميعا أن عنق سوريا تحت شفرة حادة لمقصلة تنزلق نحوه بإحكام.

لم يعد التباهي ببعض البطولات الصغيرة، والسلوكيات، والانتقادات الهامشية كافياً للتبرير، فعندما تعجز عن الفعل وتعرف أن مجرد قولك للحقيقة سيكون ثمنه فادحاً.. اصمت، وهذا أضعف الإيمان، ونحن السوريين لسنا بلا ذاكرة، ونتفهم جيداً من يصمت مرغما، لا بل ربما نعتبر صمته موقفاً، وهذا ما فعلناه معك أنت، واحترمناك بسببه، وقدرنا لك كثيراً عندما كنت تتحدث عن الفساد وعن المحسوبيات وعن.. وعن، لكن كل ما فعلته لا يبرر لك ما فعلته اليوم من تضليل متعمد لحقيقة لم تعد خافية على أي سوري ينظر بعينين سوريتين لا بعيني من يتحكمون به.

أحترم رأيك بأن لا تهتم بالسياسة أبداً، لكنني أستغرب قولك أنك تتجه إلى المواطنة، فالمشكلة في سوريا كانت أولاً وأساساً، وما تزال، في المواطنة، وعندما ثار السوريون لم يقصدوا السياسة بمعناها الذي عنيته أنت بل كانوا يقصدون مواطنتهم المسحوقة، وكرامتهم المهدورة، وحقوقهم المنتهكة، فأي مواطنة تلك التي تذهب باتجاهها؟! والغريب هو تعريفك للمواطنة، فالمواطنة هي قبل أن تكون ملكية هي حقوق مصانة، ومصلحة جمعية، وثقافة متأصلة، وهي في البداية والنهاية حرية، لأنك قد تستطيع أن تشعر الناس بملكيتهم للمكان، وتجعلهم مقتنعين بالدفاع عنه لكنك لن تجعلهم يشعرون بأنهم مواطنين إلا عندما يكونون أحراراً.

تحدثتَ مراراً عن الفساد، وكأن مشكلة سوريا الأهم هي الفساد، أو المحسوبيات، أو الوساطات فقط!، وكدت تقول إن المؤامرة على سوريا هي التي تسببت بانفجار غضب السوريين!! متجاهلاً أن المشكلة في جوهرها هي قضية مواطنة مغيبة، وحريات مداسة، ووطن منهوب، ومتجاهلا أيضاً أن سوريا طوال عقود حكم عائلة الأسد لم تكن إلا مزرعة لها، وأن السوريين لم يكونوا بنظرها إلا عبيداً؟

من سألك من 'مونتريال' أو 'استوكهولم' أو 'كوبنهاغن' عن صمتك حيال ما جرى في إدلب وحمص ودرعا ودمشق لا يناضل 'بالمناظير' عن بعد كما اتهمته. فهو لم يذهب إلى هناك ترفاً، وأنت تعرف كيف هدم بيته فوق رأسه، وكيف تناثرت أشلاء أطفاله تحت الركام، وكيف عذب حتى الموت في أقبية أجهزة مخابرات من صافحته قبل أيام.

لا ينفع في اللحظات الشديدة الخطورة في تاريخ أي شعب أو دولة أن يتحدث مثقفوها أو سياسيوها بلغة مخادعة مواربة، وسياسة مسك العصا من منتصفها في هذه اللحظات تكون أقرب للخيانة، والصمت أنبل وأصدق وأكثر نجاعة من عدم قول الحقيقة كاملة، وأفضل حتى من قول جزء منها وطمس معظمها.

أن تصمت خوفاً ليس خيانة، لكن طمس الحقيقة وتغطيتها والترويج لنقيضها هو الخيانة، ومن سألك من "مونتريال" أو "استوكهولم" أو "كوبنهاغن" عن صمتك حيال ما جرى في إدلب وحمص ودرعا ودمشق لا يناضل "بالنواضير" عن بعد كما اتهمته، فهو لم يذهب إلى هناك ترفاً، وأنت تعرف كيف هدم بيته فوق رأسه، وكيف تناثرت أشلاء أطفاله تحت الركام،وكيف عذب حتى الموت في أقبية أجهزة مخابرات من صافحته قبل أيام، والغريب أنك رغم معرفتك بكل ما لحق به تستنكر عليه أن يسألك لماذا صمتّ عن موت أطفاله وأهله؟!

من لم ينتصر لحمص ولإدلب ودوما ودرعا و..و.. لن يكون صادقا بانتصاره لغزة.

لم أكن لأكتب لك هذه الرسالة لو أنك بقيت صامتاً، أو لو أنك ألمحت في حديثك إلى عدم قدرتك على قول كل ما تريد، وربما لم أكن لأهتم أصلاً بكل حديثك لو لم تسبقه بفضيحة الاجتماع ببشار الأسد، فكيف تريدني أن أصدق أنك مغلوب على أمرك، وأنك مقهور وحزين على السوريين الجائعين في المخيمات وفي بيوت وشوارع المدن السورية وفي الشتات في الوقت الذي تصافح فيه قاتلهم، ومشردهم ومجوعهم، الذي يتاجر اليوم بمآسيهم؟؟!!

سأفترض أنك غير مبال بآلام السوريين، هذا حقك وإن كان حقا مكروها، وسأفترض أنك ضد من ثاروا في وجه السلطة الغاشمة، وهذا حقك أيضاً، وهو حق مكروه أيضاً، وسأفترض أنك لا تهتم بالسياسة ولا بالشأن العام، وأنك متفرغ لفنك وعائلتك فقط، لكن دعني أسألك ألا تهمك سوريا التي يتاجر بها وبمنتهى الصفاقة من ذهبتَ للقائه؟؟!!، ألا تهمك سوريا المنهارة المهددة بالتقسيم وبالتلاشي؟! ألا يدفعك ما يفعله من يسرقون جهاراً اقتصاد وطنك ولقمة أولادك ومستقبلهم إلى اتخاذ موقف ما؟!.

ليتك بقيت صامتاً، كنتُ مع كثيرين غيري سنظل نهمس لأنفسنا بأنك لم تخذلنا، ولم تؤيد قاتلنا، وأنك مغلوب على أمرك، وأنك ابن مخلص لسوريا المنتهكة لكنك عاجز عن الفعل، ونحن الذين أرغمنا على مغادرة سوريا لا نخوّن من ظلوا فيها، ونعرف جيداً حجم ألمهم، ونحن - وبشهادة العصابة التي تسببت بكل هذه المأساة- من نتحمل اليوم عبء أهلنا ونقف إلى جانبهم، لكننا نُخوّن من يخرج عن صمته ليبارك قاتلنا، أو ليدعمه ويروج له وإن كان مرغماً.

لقد خدعتنا، وكذبت علينا، وحاولت بجمل ممجوجة ومستهلكة تبرير خديعتك لنا، واعتقدتَ أنك ما تزال قادراً كما "الجوكر" على أن تجلس حيث تريد، لكن يبدو أنه فاتك ما هو في غاية الأهمية، وهو أن السوريين – على العكس منك - امتلكوا من الحرية ومن الألم ما يكفي لكي يجهروا برأيهم بلا خوف.

أكمل خديعتك لنا، يبدو أن ضميرك قادر على تحمل وزر الخديعة.