غيّب الموت، مساء أمس السبت، الكاتب والمفكر السوري، معاذ السرّاج، عن عمر ناهز الـ66 عاماً في مدينة إسطنبول التركية على إثر تعرضه لجلطة دموية مباغتة.
ونعى ناشطون ومعارضون سوريون من مختلف المكونات الاجتماعية والفكرية والتوجهات السياسية، الراحل السرّاج "أبا عمرو" الذي عُرف بتاريخه النضالي ومواقفه المعارضة لنظام الاستبداد في سوريا منذ سنوات شبابه الأولى، حيث تعرّض لأقسى أشكال وصور التهديد الأمني والمخابراتي الذي شهدته البلاد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ليهجر مرغماً وطنه وداره وأهله لنحو 40 سنة، ذاق فيها ما ذاق من مرارة الغربة والتهجير والقهر.
جسّد اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، أمل الخلاص والعودة الذي انتظره السرّاج بفارغ الصبر، ودفع ثمنه ثلثي عمره في المنافي والمغتربات
وكغالبية السوريين المهجّرين والمبعدين عن ديارهم، جسّد اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، أمل الخلاص والعودة الذي انتظره السرّاج بفارغ الصبر، ودفع ثمنه ثلثي عمره في المنافي والمغتربات يحدّث أبناءه الذين ولدوا هناك، عن مدينته الوادعة، دير الزور، التي لا يعرفونها إلا من خلال حكاياته، وعن نهرها الغافي تحت ظلال أشجار (الغَرَب) وأعواد (الزَلّ)، وعن (قياليل) صيفها السحري الذي يستحيل على غير ابن حارات المدينة أن يشعر ببرده!
ظل "أبو عمرو" يتابع تطورات ومستجدات الثورة يوماً بيوم من مكان إقامته مع أسرته في العاصمة الأردنية عمّان التي انتقل إليها خلال عام 1993 قادماً من العراق الذي شكّل موطن اللجوء الأول له منذ عام 1980.
لم يستطع منع نفسه من زيارة مدينته، فتمكن من رؤيتها أياماً قليلة بعد تحريرها من عصابات الأسد. ولكي يبقى قريباً منها قرر الانتقال إلى تركيا نظراً لسهولة العبور إلى الداخل السوري، مقارنة بالأردن، والوصول إلى دير الزور متى شاء.
ومنذ مطلع 2015، العام الذي قدم فيه إلى تركيا، لم يدّخر أبو عمرو جهداً، فكرياً وسياسياً وإنسانياً ومادياً، إلا بذله في سبيل توفيق ووحدة السوريين، وجمعهم، وتشكيل نواة وطنية سورية، تضم مختلف المكونات الفكرية والثقافية والاجتماعية، وتفعيل دور النخب لإيمانه الراسخ بأن البلد سيكون في أشد الحاجة إليهم لإعادة تكوينه وبناء مؤسساته مستقبلاً.
ويُجمع غالبية الذين عايشوا السرّاج عن قرب والذين عملوا معه في الشأن الوطني، على أنه من أكثر الشخصيات التي كان يعول عليها في رسم الجسور الوطنية وإزالة العوائق الفكرية والاجتماعية بين السوريين، لما عرف عنه من مرونة وأسلوبٍ حضاري راقٍ في الحوار والإقناع، تنمّ عن خبرة عميقة ومتأنية في فهم الحالة السورية.
تمتّع السرّاج بتلك الصفات وغيرها، على الرغم من تصنيفه كواحد من "المفكرين الإسلاميين" نظراً لعلاقاته مع مختلف أفراد وجماعات التيارات الإسلامية السياسية السورية، هذا من جانب، ولأنه من جانب آخر وهو الأهم، ينحدر من أسرة عريقة من العلماء، ومعاذ نفسه هو الابن البكر للعلامة الدكتور "أحمد السرّاج"، وتُعرف "عيلة السرّاج" كإحدى أهم العائلات العلمية في دير الزور وسوريا، وقد أنجبت عددًا من العلماء كالشيخ حسين، والشيخ د. أحمد، ود. عبود، وآخرين.
ولعل ما يميّز معاذ وعائلته –كإحدى العائلات المهتمة في دراسة الأصول والعلوم الشرعية- عن غيرها، ينبع من اهتمام أفرادها بالتحصيل العلمي، والنتاج الفكري المنفتح على مختلف الثقافات
ولعل ما يميّز معاذ وعائلته –كإحدى العائلات المهتمة في دراسة الأصول والعلوم الشرعية- عن غيرها، ينبع من اهتمام أفرادها بالتحصيل العلمي، والنتاج الفكري المنفتح على مختلف الثقافات، وهذا ما جعل من الراحل أحد أهم العاملين في مجال البحوث التاريخية والفكرية والسياسية، فضلاً عن حمله شهادة في الهندسة الكهربائية من جامعة دمشق.
وللراحل في المجال البحثي التاريخي رصيد مهم واستثنائي من المؤلفات والمقالات، التي يمكن اعتبارها كوثائق شاهدة على أحداث ووقائع عجزت كتب التاريخ والفكر والسياسة عن رصدها. وكان أبو عمرو قد بدأ أخيراً في إخراجها إلى النور من خلال نشر جزء منها في بعض المواقع والدوريات، إلا أن يد المنون شاءت أن نكتفي بهذا القدر.
رحل معاذ وأخذ معه خَجَلَنا وشعورَنا بالعجز الذي كنا نقع فيه كلما تكاسلنا وترددنا في تلبية دعوة منه أو رغبته بعقد لقاء نناقش فيه همّنا السوري أو نطرح من خلاله نشاطاً هامشياً أو مشروعاً بسيطاً يصون ثورتنا ويضمن مستقبل بلدنا، الذي لا يستحق أن يدوس ترابه إلا معاذ ومن يشبهونه.