إذا زار أحد عشاق الطبيعة جبال جورا المحيطة ببحيرة مدينة لوزان القريبة من جنيف، فلابد لهذا الشخص أن يعجب بالهدوء والسكينة التي تتسم بها تلك المدينة الواقعة على الحدود بين فرنسا وسويسرا.
وإن كان الحظ حليفه، فقد ينضم لإحدى الجولات اليومية على الدراجة بين قمم تلك الجبال ووديانها والتي يقوم بها بدر الدين ويس أحمد الذي يتصف بتصميمه وعناده في تحقيق أهدافه، فقد قطع هذا الشاب آلاف الكيلومترات بوسائط متعددة حتى يحقق حلمه.. ذلك الحلم الذي جعل العالم كله يدرك بأن بلده سوريا أكبر من مجرد أرض تراق فيها الدماء وتنتشر فيه الوحشية والقسوة.
ولد هذا الشاب في مدينة حلب التي تعتبر أكبر المدن السورية من حيث تعداد السكان، واختار لنفسه هواية قيادة الدراجة وركوبها منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره، بيد أن الغريب في الأمر هو أن سوريا ليس لديها تاريخ عريق في مجال قيادة الدراجات الهوائية.
غير أن بدر الدين كان من الواضح منذ بداياته بأن مستقبله في هذا المجال سيكون واعداً، وهكذا مثّل بلده سوريا في بطولة العالم للناشئين في عام 2009، ليصبح هذا الشاب، البالغ من العمر 18 عاماً، أول سائق دراجة هوائية سوري يشارك في بطولة للناشئين من هذا النوع. ومن هنا أدرك أن بوسعه أن يجد لنفسه ولبلاده مكانة في هذا المجال، وكما هو متوقع، واصل بدر الدين التدريب في مختلف الظروف، إلى أن "اندلعت الحرب" في سوريا عام 2011.
وعندما صار التدريب مستحيلاً في حلب، انتقل بدر الدين إلى دمشق بصفة طالب وواصل التدريب هناك، ونجا من الموت في الوقت الذي كان فيه ملايين المدنيين الأبرياء يتساقطون قتلى بسبب الحرب. بعد ذلك انتقلت أسرة بدر الدين إلى تركيا، إلا أن بدر الدين أصر على مواصلة التدريب في دمشق.
ثم وقعت المصيبة في عام 2014، وذلك عندما تعرضت الجامعة للقصف، ففقد بدر الدين يومها كل أصدقائه، وعملياً، أصبح من المستحيل بالنسبة له مواصلة العيش في دمشق دون أي مصدر للدخل.
وبجرأته التي حافظ عليها حتى اللحظة، هرب بدر الدين من سوريا بسيارته، حيث قادها لمدة ثلاث ساعات تقريباً إلى أن وصل إلى بيروت ثم قاد سيارته لمدة يوم حتى وصل إلى الساحل التركي، وهناك وجد مركباً لأحد المهربين قام بنقله عبر بحر إيجة ليصل إلى اليونان.
ويحدثنا بدر الدين عن مغامراته فيقول: "كانت تلك أصعب اللحظات وأقساها على الإطلاق في حياتي"، فقد كان عليه أن يتوارى عن الأنظار في تركيا إلى أن تمكن من تأمين جواز سفر جديد، بعد ذلك صارت أمنيته أن تقوم الحكومة السويسرية بإصدار الوثائق اللازمة له ليتمكن من طلب اللجوء في لوزان، تلك المدينة التي أقيم فيها مقر اللجنة الأولمبية الدولية.
وبالرغم من ذلك، لم تنته الإثارة عند طلب اللجوء في بلاد قصية، إذ طوال تلك الفترة التي عاشها بدر الدين كـ "البحار ماجلان"، كان مطلوباً لـ "الجيش السوري"، أجل... لقد قرأتم الكلمة بشكل صحيح... كان مطلوباً للجيش.
إذ بما أن سوريا بلد يحكمه العسكر، لذا يتعين على كل مواطن ذكر تجاوز عمره 18 عاماً أن يؤدي الخدمة العسكرية في الجيش، وقد تأكد بدر الدين بعد هروبه بأنه أصبح مطلوباً بتهمة الفرار من التجنيد الإجباري، وهي تهمة قد تصل به إلى الإعدام في حال ألقي القبض عليه.
وبالرغم من كل تلك الدراما على الصعيدين الاجتماعي والسياسي التي ملأت حياته، بقي بدر الدين يحلم بمستقبل أفضل في سوريا. إذ بعد تلك الرحلة البحرية التي كبدته خسائر فادحة، قرر أن يستريح عبر ركوب الدراجة الهوائية بعد استقراره في مدينة لوزان.
وهكذا تحول إلى سائق سيارة أجرة يقود السيارة طوال النهار ويجني راتباً تافهاً، ولكن عندما أعلنت اللجنة الأولمبية الدولية عن تشكيلها لفريق من اللاجئين ليسافر إلى ريودي جانيرو للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية هناك، أدرك بدر الدين بأن حلمه أخذ يتحقق، وهنا عاد للتدريب مجدداً في عام 2016، فلم يعد ذلك المحارب الموجود داخله ينظر إلى الوراء بعدما صار يشارك في كل البطولات على مستوى العالم منذ ذلك الحين.
وخلال بطولة العالم في إنسبروك لعام 2018 بالنمسا، قدم بدر الدين عرضاً مفعماً بالحيوية بعدما تدرب على الطريق لمرة واحدة فقط قبل المسابقة، في الوقت الذي كان فيه منافسوه يتمتعون بخبرة طويلة وتدريب هائل. ويومها، لفت هذا الشاب القصير النحيل الذي كتب كلمة "سوريا" على صدره كل الأنظار إليه.
وبعد البطولة أحاط به الصحفيون والمراسلون من كل جانب ليسألوه عن مشاعره تجاه بلده، فغمر شيء من القلق وجهه، ثم قال: "أريد أن أقول لكل الناس في هذا العالم، بأن كل ما يحتاج إليه الناشئون الذين يكبرون ويتعلمون أو يتدربون على القيام بشيء ما، هو السلام، ولهذا نتمنى أن تنتهي الحرب خلال فترة قريبة، من أجل كل السوريين... ولقد أتيت إلى هنا لأقول لكل الناس بأن بلدي ليس بلد حرب فحسب، بل إنه بلد فيه رياضة على سبيل المثال، ولهذا نتمنى أن يحل السلام في سوريا وبقية المناطق في العالم".
وبعد كل تلك العروض المفعمة بالحيوية التي قدمها بدر الدين في مختلف أنحاء العالم، وبعدما لمع اسمه في مجال قيادة الدراجات الهوائية خلال فترة قصيرة من الزمن، لم يعد بوسع اللجنة الأولمبية الدولية أن تستغني عنه أو أن تستثنيه من فريق اللاجئين الذي يمثل القارة والذي تقرر سفره إلى طوكيو.
وبما أنه انضم إلى هذا الفريق، الذي يمثل القارة المؤلف من 29 رياضياً من ذوي الجلد والشجاعة والذين تعود أصولهم لمناطق مختلفة من هذا العالم، فمن المتوقع أن يسطع نجم البعض منهم ليس كلاجئين بل كرياضيين تحدوا كل المعوقات ليحققوا ما يصبون إليه وليبزوا أقرانهم في مجال الرياضة.
وهكذا صار بدر الدين يشارك في مباريات ومسابقات تحت راية اللجنة الأولمبية الدولية، الأمر الذي أتاح له التعبير عن مدى مرونته وتأقلمه الذي وصل لحدود استثنائية في مجابهة الصعاب والوصول إلى القمة، إذ عندما يتجول بدر الدين بواسطة دراجته وسط غابة فوساشينو وعند سفوح جبل فيجي، فلابد لذلك أن يكون بمنزلة بصيص أمل بالنسبة لملايين المعذبين من المدنيين في مختلف أنحاء العالم والذين يحلمون بمستقبل أفضل.
المصدر: ذا بريدج