إن التغيير الذي تسعى إليه المجتمعات مرتبط إلى حد كبير بواقع المرأة، ومع الأسف ما زالت الاستفادة من قدرات المرأة العربية على المستويين السياسي والاقتصادي هي الأقل في العالم.
أما المرأة السورية، التي كانت وما زالت تمسك بشروط استمرارية الحياة، فإن دورها الاجتماعي والاقتصادي مرّ بمراحل متعددة، من حيث هي الأم، وربة المنزل. أما ما قيل عن حقوق المرأة والمساواة، قياسا إلى نسبة تأثيره الواقعي كشريكة في إدارة المجتمع، فهو غير ملاحظ.
من حيث الشكل، يعتبر التعليم أحد الطرق المؤدية إلى تحرر المرأة، ودخولها سوق العمل. فمشاركتها في الحياة العامة تتوقف على مستوى تعليمها، وقد تعلمت، ودخلت سوق العمل، إلا أنها لم تتحرر! والعمل الذي أنيط بها هو (الوظيفة والتعليم)؛ الوظيفة بوصفها "بطالة مقنعة"، تشمل الرجال والنساء على حد سواء. أما التعليم فقد لامس إلى حد ما قدرات المرأة، وإمكاناتها، وخاصة معلمات المرحلة الابتدائية. وهذا يتناسب جزئيا مع ما تعهد به "حزب البعث" الذي تولى السلطة عام 1963.
لم تصل المرأة إلى المساواة الكاملة التي تعهد بها ذلك الحزب إلى يومنا هذا، فالمدارس التي فتحت أبوابها للإناث والذكور على حد سواء، لم تترافق مع حوافز تجعل أبناء البيئات الفقيرة، في حوض الفرات على سبيل المثال، يتخلون عن عمل بناتهم وزوجاتهم في الأرض، ويلحقونهن مع من التحق بالمدارس، وخاصة بعد المرحلة الابتدائية. إضافة إلى ذلك كانت المدارس الإعدادية والثانوية في مراكز المدن "الناحية- المنطقة- المدينة"، وهذا يقتضي من الطالبة التي تتجاوز المرحلة الابتدائية أن تقيم بعيدا عن أهلها، إضافة للمصاريف التي تقتضيها دراستها، وإقامتها. هذه الأمور وغيرها جعلت كثيرا من طلاب الريف "إناثا وذكورا" يتوقفون عند المرحلة الابتدائية.
وهذا أحد أسباب غياب العلاقة بين التوسع في تعليم المرأة، وتأثيرها في صنع الحياة من حولها. في الريف والمدينة على حد سواء.
في ظل هذا التردي تمتلئ منصات التواصل الاجتماعي بالجدل الذي أثير بين النخب السورية حول لباس المخرجة المبدعة وعد الخطيب والطبيبة الحقوقية أماني بلور، وهذا الجدل بحد ذاته هو أحد جوانب معاناة المرأة السورية
فواقع الحياة في سوريا لم يكن بحاجة إلى هذا التعهد الذي أخذته السلطة على نفسها. من حيث أن التاريخ يشهد للمرأة السورية بدورها البارز في صنع الاستقلال، هذا إذا تحدثنا عن العصر الحديث، فسوريا لم تتوّقف يوماً عن إنجاب العظيمات من نسائها، واللاتي أصبحن صروحاً يمجدها التاريخ، والسيدة نازك العابد التي لقبت بـ "جان دارك" سوريا هي من الأمثلة الناصعة، من حيث أنها أول امرأة تدخل الجيش السوري بلقب جنرال، هذا اللقب الذي منحه لها الملك فيصل لدورها في معركة ميسلون، والسيدة أليس قندلفت أول امرأة عربية تمثل بلدها كسفيرة في الأمم المتحدة في أربعينيات القرن الماضي، والسيدة سارة مؤيد العظم التي قادت المظاهرات النسوية المناوئة للانتداب الفرنسي... وغيرهن كثير من النساء البارزات. حتى أن المؤتمر النسائي الشرقي الأول عام 1930 استضافته مدينة دمشق، وشاركت فيه أكثر من ثلاثمئة امرأة سورية.
***
هذا التاريخ لم يستطع "حزب البعث" أن يتجاهله، أو أن يقطع معه، فحمله خطابا، وفتح المدارس، وسوق العمل أمام المرأة، دون ضمانات لمكانتها في الحياة التشريعية والسياسية والاقتصادية. فكان عملها إضافة مضنية لواجباتها الأسروية، كأم وربة منزل. ومع ذلك فإن مشاركة المرأة في القوة العاملة بقيت منخفضة.
وفقا للبنك الدولي، اعتبارا من عام 2014، شكلت النساء 16،4 بالمئة من القوى العاملة. علما أنها القوة العامة في بنية أي مجتمع. أعتقد أن متابعات البنك الدولي لم تأخذ بالاعتبار عمل المرأة في الزراعة، وتربية الدواجن والماشية.
هذه القوة العامة تضاعفت بعد عام 2011، إذ أن عدد الإناث تخطى عدد الذكور، وتجاوز المعدلات المتعارف عليها لأسباب كثيرة، أهمها هجرة الشباب. فأضيفت إلى المرأة أدوار وأحمال فوق حملها المعهود، وصارت تأخذ دور الأم والأب في بعض الأسر، وتأخذ دور المعيل الوحيد في أسر أخرى، وأصبحت حياتها مواجهة مباشرة مع الواقع الذي لا يرحم، إذ أن الحياة السورية أصبحت قائمة على النضال المرير من أجل لقمة العيش ليس إلا.
وقد كان للسياسات الصارمة في تقييد حريات النساء من قبل الجماعات المتطرفة أثره الواضح على الحياة العامة في المناطق التي سيطرت وتسيطر عليها تلك الجماعات، وعلى حياة المرأة على وجه الخصوص.
أما في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، فما زال قانون الأحوال الشخصية قائما على الشريعة، حيث عمر الزواج الشرعي للإناث سبعة عشر عاما، وثمانية عشر عاما للذكور، ويوقع العقد من قبل العريس وولي أمر العروس. ولا يعترف القانون السوري بمفهوم الاغتصاب الزوجي، وقوانين الطلاق كلها في مصلحة الزوج، ورغم كل التحولات التي أطاحت بالبلاد والعباد، لم تستطع المرأة أن تتخطى هذه الحدود البدائية، لا بل لم تعد تفكر بذلك، ليس لأنها لا تريد، بل لأن تلك المطالب أصبحت نوعا من الكماليات أمام الحاجات المحدقة بها، وأولها لقمة العيش.
***
في ظل هذا التردي تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بالجدل الذي أثير بين النخب السورية حول لباس المخرجة المبدعة وعد الخطيب والطبيبة الحقوقية أماني بلور، وهذا الجدل بحد ذاته هو أحد جوانب معاناة المرأة السورية. إذ ما زال هناك من يتوقف عقله ووجدانه عند ما ارتدته السيدتان من ثياب، ولا يتوقف عند ملايين النساء السوريات المثقلات بهموم الحياة اليومية.
لا أحد يثير جدلا عن طابور النساء أمام الهلال الأحمر، أو الجمعيات الخيرية من أجل الحصول على "السلة الغذائية" في المناسبات. ولا أحد يثير جدلا عن مخيمات السوريين الغارقة بالوحل شتاء، وبالبؤس دائما. ولا أحد يتحدث عن التحديات الاجتماعية والمعيشية التي اضطرت النساء للعمل، وما يعترضهن من عنف واستغلال في بيئة العمل. لا أحد يتحدث عن مخيمات اللجوء في الدول المجاورة، والتحديات شديدة التعقيد التي تواجه النساء هناك، حيث لا وجود لبنية تحتية، ولا تدفئة، والمساعدات الغذائية تتقطع بها السبل، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى التعليم، والخدمات الصحية، وهذا كله ينعكس بشكل مباشر على الفئات الأكثر هشاشة من النساء والأطفال. "شيئا فشيئا سوف يمضي كل شيء، ثم لا تبدو على أهوالها الأشياء".