يمنح المرور على الصفحات المؤيدة للنظام في موقع فيس بوك فرصة لمتابعة أشياء كثيرة، تبدو بلا أهمية، ويغيب معظمها عن وسائل إعلام المعارضة، كانخفاض عدد ساعات ضخ المياه في الحي الفلاني، أو قيام شبيح أو سائق مسؤول بإيقاف سيارته في مكان مخالف، وبما يعيق الحركة في الشارع العام!
وتمر أيضاً شكوى تنشرها صفحة حي دمشقي هامشي، عن قيام الفرن المحلي بتقليل حجم الرغيف، الذي يبيعه في ربطة الخبز! تتم الاستجابة لها من قبل مدير حماية المستهلك بوزارة التجارة الداخلية، فيُعاقب أصحاب الفرن، ويعود القائمون على الصفحة إلى نشر خبر الاستجابة، أو بالأحرى النصر على "المُستَغِلين"، مع التنويه بأن الإجراء القانوني جاء وفق أحكام القانون رقم 8 لعام 2020 الصادر عن السيد رئيس الجمهورية!
يلتقط القارئ المهتم حقيقة أن السوريين الذين ما زالوا يعيشون تحت سلطة الأسد، لا يبالغون حينما يتشكون ويكتبون عن سوء حياتهم، وعن فقدانهم للجدوى
يخرج المتابع من هذا التجوال، ببضعة أفكار، منها؛ ضرورة أن تتم قراءة النمط السلوكي لسوريين، ما زالوا يؤيدون النظام، ورغم كل الكوارث التي لحقت بهم بسببه، وهم، بالإضافة لتداول الشكاوى على الصفحات "الوطنية"، يكرسون كل جهدهم ووقتهم في سبيل الدفاع عن الأسد، والترويج لانتصاره على "المؤامرة الكونية"!
ومن جهة ثانية يلتقط القارئ المهتم حقيقة أن السوريين الذين ما زالوا يعيشون تحت سلطة الأسد، لا يبالغون حينما يتشكون ويكتبون عن سوء حياتهم، وعن فقدانهم للجدوى، عندما يتركز محرق عدساتهم المكبرة على تفاصيل صغيرة، تبدو تافهة للآخرين، تتعلق بمعيشتهم، التي باتت كل مفرداتها مفقودة، وعلى الأخص الحاجات الأساسية اليومية!
منطق الشكوى ليس جديداً في مجمله، ويعود إلى عقود سابقة، كانت تتولى فيه الإذاعة والصحافة المحلية نشر قصص المشكلات الحياتية، ومعاناة المواطنين في المؤسسات والدوائر الخدمية وغير ذلك، مع وجود حدود واضحة لا يمكن تجاوزها في آليات المعالجة الخبرية، حيث يمكن توجيه الانتقادات لأي جهة سوى المؤسستين العسكرية والأمنية، ولأي فرد سوى رأس النظام!
يدرك المرء أن اجتراح أي حل لمشكلات السوريين لن يكون مجدياً طالما بقي هذا النظام، ولا سيما أنه قد بُني في جوهره على عقيدة إذلال المواطنين، وتحويل حيواتهم إلى جحيم يومي، وبما يسمح لآليات السيطرة أن تستمر!
كما أن ثمة يقيناً باستحالة أن يخرج أحد عن السائد والمفروض، فيرفع سقف المطالب في ظل هذه الطغمة، بعد أن تغولت واستشرست، عقب ادعائها النصر، على الثائرين!
هنا، في الوقت نفسه، وإزاء كل ما سبق لا يمكن التهكم على الحاجات التي تستولي على أيامهم، أو التقليل من قيمتها، أو النظر إليها من زاوية متعالية، تبنى على الفرق بين وضع من هم في الخارج ومن هم في الداخل.
السوريون في الوقت الحالي أقوام متناثرة، بعضهم ما زال في مكانه، وبعضهم الآخر نزح في وطنه، بينما تشرد ثلث السكان تقريباً في أصقاع الأرض. فإذا ما وضع الباحث أحوال الجميع بجانب بعضها، سيظهر أن أوضاع الكل متباينة، ففي كل مكان ثمة إيجابيات وسلبيات، لابد أن يتأثر بها السوريون، لكن الحقيقة الراسخة، تقول بأن أحوالاً سيئة تصيب من خرجت مناطقهم من تحت سيطرة قوات النظام، غير أن توصيف واقع من بقوا تحت سيطرته، لا يمكن أن يعني شيئاً سوى أنهم في كارثة مريعة!
تشمتُ فئة من الثائرين بهؤلاء، بحجة عدم وقوفهم مع الثورة! وترى أنهم قد أضاعوا فرصة التغيير، عندما صمتوا على ممارسات القمع والإرهاب، وحينما تركوا النظام يفتك بمواطنيهم، الذين نزلوا الشوارع مطالبين برحيل النظام!
لكن، مثل هذا التفكير، يحمل في مضمونه مقتله، فإذا ما تم تطبيق قاعدة تجريم الآخرين الذين يصمتون في الأوقات العصيبة، ولاسيما بمفعول رجعي، فإن عموم الشعب السوري، سيلحق به العار، فقد صمتت الغالبية عن قمع النظام للمعارضين من إسلاميين ويساريين وناصريين وغيرهم، طيلة عقود، كما أنها صمتت أيضاً حين بطش بالحراك الكردي الثائر في الشمال في العام 2004!
وبأي حال من الأحوال، لا يمكن تجاهل أن أخلاقيات الثورة، تعني فيما تعنيه ألا يُحاسب أحد على شبهة وقوفه مع النظام، من دون التثبت من ذلك، فكيف ونحن نتحدث عن كتلة كبيرة من السوريين، ظنت أن حياتها ستكون أفضل إن لم تتدخل بما حصل، ومازال يحصل!
تقول الوقائع على الأرض إن غالبية من هم في الداخل يطمحون لاستغلال أي فرصة من أجل المغادرة!
يدعي النظام وحلفاؤه أن من بقي تحت سيطرته من السكان هم مجمل الشعب السوري، وأن من هم في الخارج مجرد لاجئين يجب أن تتم استعادتهم، وأن الدول المشتركة في المؤامرة الكونية تمنعهم من العودة!
بينما تقول الوقائع على الأرض إن غالبية من هم في الداخل يطمحون لاستغلال أي فرصة من أجل المغادرة!
وربما، يمكن الجزم بأن صمت هؤلاء لم يعد كافياً للتعبير عن شكواهم، بل إن ما يفعلونه هو وجهها الحقيقي، وهي تخرج عن منطق تصغير قيمة الحياة، وجعلها مجرد شأن خدماتي يومي، فتقول في جوهرها؛ إن لم يرحل النظام، فلنرحل نحن، وكفى السوريين "شر" الثورة وخراب الديار!